الإتحاد العام التونسي للشغل يهّدد بثورة جياع

نور الدين الغيلوفي

لمّا قامت الثورة التونسية وواجهتها أجهزة القمع بعنف الدولة المعتاد لجأ المتظاهرون في كثير من المدن إلى مقرّات الاتّحاد العام التونسي للشغل الذي كان دوما ملاذا لمعارضي نظام الفساد والاستبداد.. صحيح أنّ الاتحاد كان خاضعا، في مستوى قياداته العليا، للنظام السياسي، يتحرّك في مداره ضمن الأفق المسموح به تحت السقف الموضوع له، ولكنّه كان الملاذ الوحيد لكثير من المعارضين الذين لم يبق لهم غير النضال النقابيّ بعد أن بات النضال السياسيّ جريمة في دولة الأمن والأمان.

في أيام الانتفاضة كانت المنظَّمة، في مستوى قيادات مكتبها التنفيذي على الأقلّ، تقف مع النظام ضدّ الشعب التونسيّ لأنّ بن علي، في أوّل حكمه منذ نوفمبر 1987، وحتّى يستتبَّ له الأمر، شنّ حربه على المنظّمة الشغيلة ونجح في استبعاد من عُرف بشراسته من النقابيين ولم يُبق على غير الذين كان قادرا على استدراجهم إلى وضع يسهل فيه عليه ابتزازهم وتوجيه أدائهم. أمّا القيادات الجهوية فلم تجد بدًّا، والمظاهرات في أوجها، من فتح المقرّات للمتظاهرين يتجمّعون بها ثم ينطلقون منها إلى الشوراع.. على أنّ ذلك كان يسهّل على النظام رصدهم وإحصاءهم وضبط صورهم وتحديد أسمائهم.. ولا أزال أذكر جيّدا أنّ أمنيّين كانوا يعتلون عمارة مقابلة لمقرّ الاتحاد الجهوي للشغل بمدينة قابس لالتقاط الصور وتصوير الفيديوهات التي ترصد المشاركين في التحرّكات.. وكثيرا ما كانت قوات الأمن تحاصرهم داخل المباني لا يخرجون منها فيقنعون من نضالهم بالصراخ الذي لا يتعدّى الجدران.

هرب بن علي فأصابت الصدمة قيادات الاتّحاد كما أصابت غيرهم.. وكان من الصعب على المنظّمة أن تستأنف دورها في الدفاع عن الشعب وثورته بل وجدت القيادات نفسها متخلّفة عن ركب الجماهير التائقة إلى قلب الأوضاع وإرساء نظام سياسيّ يليق بثورتها يحقّق لها ما تصبو إليه من حرية وعدالة اجتماعية وكرامة وطنيّة بعيدا عن “عصابة السرّاق”.. انتصر الشعب وهرب رأس النظام واستولت الحيرة على قيادة الاتحاد وقد استعصى عليها فهم ما يجري.. ووجد الأمين العامّ الأسبق السيد عبد السلام جراد نفسه وقتها في ورطة لأنّه كان طوال عهده على رأس المنظّمة تابعا أمينا لرئيس النظام يتبادل معه المنافع، فكانت مكانته لدى رئيس الدولة تسمح له بأن يتدخّل لترقية نقابيّ مثلًا أو بأن يلتمس “من سيادته” إعادة توجيه بعض الطلبة، فكانت شفاعته كفيلة بسدّ النقص في مجموع طالب ناجح في امتحان البكالوريا وتمكينه من الحصول على شعبة الصيدلة مثلًا أو شعبة الطب، مثلما حصل لطالبة والدُها من ضمن طاقم المنظّمة القياديّ الذين يُفتَرَض أنهم يدافعون عن الكادحين وينتصرون لتكافؤ الفرص بين المواطنين.. لقد كانت قيادات الاتحاد شريكة في الفساد، وفي أقلّ الأحوال كانت شاهدة عليه وساكتة، ولم يكن الملتحفون بجبّة الاتحاد يتورّعون عن أعطيات الرئيس المخلوع من أراض ومنازل وأموال لا يعرف إحصاءها أحد.. ولم يكن ثمة فرق في الحظوة بين مسؤول في الحزب الحاكم وبين مسؤول في المنظّمة النقابيّة لأنهما معًا كانا ذراعي رئيس النظام اللذَين يبطش بهما ووجهَي عملته التي ظلّ يروّجها طيلة ربع قرن من حكمه.. ولعلّ قيادات الاتّحاد في عهد النظام النوفمبري قد أخذت، قبل ذلك، ثمن سكوتها عمّا تعرّض إليه العمال والموظفون الإسلاميون من طرد تعسفيّ ومن مصادرة لوظائفهم وقطع لجراياتهم ومنعهم من استرجاعها بعد خروجهم من السجن، بل كانت بعض القيادات النقابيّة المتنفّذة في بعض الجهات شريكة لأجهزة الأمن في ملاحقة القيادات النقابية الإسلامية.. وليس هنا وارد فضح الأسماء ولا نكء الجراح…

وبعد قيام الثورة استعملت المنظّمة قوّتها، التي حافظت عليها، لحماية قياداتها المتورّطة في قضايا الفساد وبذلك قطعت الطريق على هدف من أهداف الثورة يتمثّل في محاسبة الفاسدين. ولقد صارت المحاسبة مستحيلة بعد أن استُثنيت قيادات الإتحاد من التتبّعات العدليّة كما لو أنّها فوق القانون. واستثمرت قيادات الإتحاد قوّة منظّمتهم الباقية في الحيلولة دون محاسبة الفاسدين من قيادات النظام السابق والمحيطين به الذين مدّت المنظّمة في أنفاسهم فعادوا إلى تصدّر المشهد من جديد أسوة بمن كان فاسدا من قيادات العمل النقابيّ الذين لم تُمَسّ منهم شعرة واحدة.. ولم يكن من السهل على العدالة غضّ الطرْف عن النقابيين وملاحقة غيرهم من الفاسدين.. ولمّا كانت شبكة الفساد موصولا بعضها ببعض فقد جعل النقابيون من منظّمتهم درعا يحمي خيوطها ويعمل على طمس الطريق إليها.

كانت انتخابات 23 أكتوبر/ تشرين الأوّل 2011 محطّة فاصلة جعلت الخصومات الإيديولوجية القديمة في الجامعة التونسيّة تطفو على السطح، وكانت أغلب قيادات العمل النقابي من قدماء الطلبة أو التلاميذ اليساريين خصومِ الإسلاميين الإيديولوجيّين.. ولما أدرك هؤلاء أنّ معارك السياسة والإنتخابات تفوق استطاعتهم يصل بها خصومهم ولا يصلون فقد اتّخذوا من الاتحاد العامّ التونسيّ للشغل المنصّة التي يرجمونهم منها.. وبدلا من أن ينطلق هؤلاء في أعمالهم من مقرّات أحزابهم ويمارسوا السياسة على أصولها وفق الضوابط التي تقتضيها سوق السياسة، بدلًا من ذلك جعلوا من الاتّحاد خيمتهم الخاصّة بهم وأخذوا يرجمون من داخله منافسيهم الذين جاءت بهم إنتخابات حرّة نزيهة لا يرقى إليها شكّ.. ونُفّذ من الإضرابات في سنوات حكم الترويكا وما بعدها من زمن الثورة ما لم ينفَّذ منذ تأسس العمل النقابي في تونس.

دخل الإتحاد العام التونسي للشغل على خطّ السياسة لمساعدة المنظومة القديمة واليسار المتضرّر من الإنتخابات على الإنقلاب على حكم الترويكا.. وشيئا فشيئا صارت المنظّمة النقابيّة لاعبًا سياسيا رئيسًا متقدّما على الأحزاب المنتَخبَة.. بل صار الإتّحاد هو المتحكّم في المشهد السياسيّ برمّته وذلك من خلال قيادته للحوار الوطنيّ مع الأطراف الراعية الأخرى التي جمعها هدفُ إخراج البلاد من أزمتها التي ساهم في استفحالها عدد الإضرابات التي شلّت حركة الحياة بها.. لقد خلقوا الأزمة وبادروا إلى قيادة قاطرة حلّها حتّى ظفروا بجائزة نوبل للسلام.. وأخذ الاتّحاد يتغوّل على حساب الأحزاب السياسية التي بدأت تعمل بعد الثورة.. يجني الأرباح ويتفصّى من الخسائر كأنّه إحتكر الصواب وتنزّه عن الأخطاء حتى لقد فُسح له المجال ليضع وزراء في الحكومات ويعزل آخرين.

ولمّا كان الاتّحاد مُقحَمًا في مجال السياسة فقد كان يصنع السياسات بغير أدواتها مستغلّا ضعف الدولة وارتباك الحكومات وحالة الفراغ التي تستشري.. وكانت الأوضاع تسوء حتّى صار الاتّحاد خصما للدولة.. وظلّ يناصبها العداء إلى أن بلغ الأمر بالأمين العام السيد نور الدين الطبّوبي أن ظهر يتوعّد الحكومة بثورة الجياع. فمن هم الجياع؟ ومن الذي سيقود ثورتهم إذا ثاروا؟ وهل عرف السيد الأمين العام والقيادة التي تحيط به معنى الجوع يوما؟

إنّ الحديث عن ثورة الجياع إنّما يحمل في طيّاته استخفافا من السيد الأمين العامّ بعقول الناس واستهانةً بفهمهم أو غباءً مستحكما لديه لأنّه لا يعلم أنّ الجائعين، أصحاب البطون الخاوية، إن هم ثاروا فإنّهم لن يستثنوه من ثورتهم ولن ينجوَ هو ومكوّنات مكتبه التنفيذيّ من غضبهم.. سيكنس الجياع إذا ثاروا الجميع: السلطة والمعارضة وقيادة الاتّحاد العام التونسيّ للشغل.. ولن يستطيع هؤلاء إقناع أحد من الناس بأنّهم هم أيضًا من الجياع.. فلا أحد منهم وقف يومًا على الجمر الذي يكوي الجائعين ولا هو ذاق طعم الجوع.. إنّ السيّد الأمين العامّ ونظراءه من القيادات النقابية الصاخبة شركاء في تجويع الناس في هذه البلاد.. شركاء في النهب والتزييف والتعطيل.. فمن الذي قال له إنّه هو الذي سيمسك برسن الثورة إذا هي قامت؟
يعلم الناس أنّ النقابيين، على مستوى القيادة المركزيّة على الأقلّ، كانوا من المستفيدين هم والدائرين في أفلاكهم من أقاربهم ومقرّبيهم.. فلا تكاد تجد أحدًا من هؤلاء معطَّلا عن العمل.. بل إن المنظّمة لا تزال مورّطة في دعم بعض التونسيين على حساب بعض في نوع من الميز الإيديولوجي عندما تتبنّى منظمات شبابية للطلبة المعطّلين عن العمل تنفق عليهم من جيوب الكادحين لينجزوا مؤتمرات بعشرات الملايين في النزل السياسية وهم معطَّلون لا يعملون..
أما كان أحرى بالاتحاد أن يكون عونا للحكومة يخفف المعاناة عن الناس ويساعد على إزالة الاحتقان بنشر مناخ الثقة وإرساء ثقافة العمل؟..
إنّه كان يمكن للاتحاد أن يصحّح من أدائه تكفيرا عن ربع قرن من زمان التونسيين قضاها في تمجيد المستبدين والتغطية على الفاسدين والسير في ركاب الظالمين.. ولكنّ منظمتنا الوطنية العتيدة اختُطفت لتعمل ضد الثورة وتهدّد الدولة وتهدم المؤسسات..
تعمل بيدها ضدّ الجائعين وترفع صوتها تتوعّد بثورتهم.

Exit mobile version