محمد كشكار
مواطن العالَم
أستاذ ثانوي يُسنِدُ لكل تلامذته دومًا 20 على 20.
الزمان: العشرية الأولى من القرن 21.
المكان: معهد ثانوي عمومي بباريس.
البطل: أستاذ ثانوي مختص في تدريس التاريخ، واسمه (Pascal Diard, Paris, Lycée Suger à Saint Denis).
الخبرُ، كما وصلني بالسماع وليس بالمعاينة:
أستاذٌ أقام وزارة التربية الفرنسية منذ سنوات ولم يُقْعِدْها حتى الآن: قرّر أن يسند لكل تلامذته دومًا 20 على 20 في كل الامتحانات، الرسمية وغير الرسمية، داخل المعهد الذي يدرّس فيه بباريس.
حُجتُه في ذلك أن الأعداد الجزائية المسنَدة إلى التلامذة هي بالأساس أعدادٌ تقييميّةٌ اعتباطيّةٌ وقد تصدم التلميذ أو تؤلمه أو تحبطه أو تخيفه أو تفزعه، لذلك رأى بطلُ قصتنا وارتأى أن واجبَه يحتم عليه عدم إرباك أبنائه التلامذة.
تَجدرُ الإشارةُ إلى أن هذا الأستاذ المتنطع والثائر على قوانين وزارة التربية الفرنسية يرى أن لا وصاية على الأستاذ في المسائل البيداغوجية، ومن بين هذه المسائل حرية إسناد الأعداد كما يشاءُ هو، لا كما يشاءُ وزيرُ التربية. لم أجرؤ طوال حياتي المهنية على فِعل ما فَعل زميلي الأجنبي، لكنني تمنيتُ في داخلي أن أفعل ما فعل. أتعاطفُ مبدئيًّا مع زميلي الفرنسي وأؤيدُ تبريرَه المنطقي دفاعًا عن سيادةِ وحريةِ الأستاذ داخل قسمِه. تظهرُ اعتباطيةُ إسنادِ الأعدادِ أساسا في أن مَن يُسندُ الأعداد (أي المعلم والأستاذ) ويقيّمُ التلاميذ، هو نفسُه لم يدرسْ أكاديميًّا ولو شهرا واحدا علم التقييم، فمَثَلُ مدرّسِينا إذن كمَثَلِ “تاجر يقدّر وزن سلعة دون ميزان”، أتوجدُ اعتباطيةٌ أكثر من هذه الاعتباطيةِ؟
حاولتْ الوزارة ثَنْيَه عن صنيعه هذا فلم تفلح في ردعه، لا بالجزرة ولا بالعصا. قاموا بتفقده قصد إرهابه 8 مرات خلال 11 عاما تدريس. عرضتْ عليه الوزارة القيام بعمل إداري والاستقالة من التدريس فرفض: “تجري الرياح بما لا تشتهي السفن”. أرادت الوزارة إسكاتَه وإخمادَ صوته، فذاع على العكس صيتُه في كامل التراب الفرنسي، وتأسست من أجل حمايته ومساندته لجنة قومية، وتكوّن حول هذه الأخيرة حزامٌ نقابي يضم الآلاف من المتعاطفين الفرنسيين وغير الفرنسيين، وحصل لي الشرف أن كنتُ واحدًا منهم ولو بالإيمان بقضيته فقط وقد بلّغته فعلا تحياتي عن طريق ابن أختي، زميله في نفس المعهد. أخبرني ابن أختي أخيرا أن زميلَه تنازل قليلا لصالح الوزارة وأصبح يسند لتلامذته أعدادا أقل من 20 لكن تفوقُ 17 على 20.
مع العلم أن بطلَ قصتنا الواقعية هذه، هو أستاذُ تاريخٍ كفءٌ وقديرٌ ومن كراماتِه أنه عندما يدرّس تاريخَ حركة المقاومة الفرنسية في الحرب العالمية الثانية، يستدعي إلى القسم بطلاً من أبطالِها الناجين (هل فعلها أستاذٌ تونسيٌّ واحدٌ؟ لا أظنُّ، رغم أن التجربة تبدو سهلةً وفي متناوَل أي أستاذ تاريخ!)، ومن إنجازاته أيضا أنه يؤطِّر تلامذة الباكلوريا ويحثهم على البحث العلمي، وبفضل علاقاته الثقافية والصحفية والجمعياتية يُمهِّدُ لهم نشرَ إنتاجِهم الفكري في مجلات مختصة، ويساعدهم على إصدارِ أقراصٍ رقميةٍ مضغوطةٍ (CD) تروي التاريخَ بأسلوبٍ بيداغوجيٍّ جذّابٍ وطريقةٍ تعلّميةٍ ناجعةٍ لفائدة تلامذة المعهد وتلامذة المعاهد الأخرى.
إمضائي
و”إذا كانت كلماتي لا تبلغُ فهمَك فدعْها إلى فجرٍ آخَرَ” جبران
Aimer, c`est agir. Victor Hugo