قرأت منذ أيّام الجامعة كتاب العواصم من القواصم لأبي بكر بن عربي وما بذل فيه من جهد لتبرير قواصم تاريخ الإسلام الأوّل بما استنبطه من عواصم وهي تأويلات للنصّ والتّاريخ تجد مسوّغات أو مبرّرات لما ارتكبه المسلمون في حقّ بعضهم البعض من قتل وانتهاك للحرمات، وكان مقتل الحسين من تلكم القواصم التي استنبط لها عاصمة عدم جواز شقّ عصا الطاعة والتمرّد على بيعة وليّ الأمر أو نقضها بعد إبرامها أو مبايعة خليفة في ظلّ خليفة قائم ممّا يجعل مرتكب هذا الجرم مستحقّا للقتل وتقطيع اليدين والرّجلين من خلاف كما نصّت آية الحرابة،
استحضر هذا الكتاب وأنا أتابع مقتل الخاشقجي شهيد حريّة الكلمة، فبنفس تلك المسوّغات يقتل الرّجل ويقطّع جسده ويحمل رأسه كما أشيع إلى يزيد العصر، نفس الفقه السلطاني الوسيط الذي بقي حاكما رغم تعاقب الأزمنة والثّورات المعرفيّة التي أنجزتها البشريّة في السياسة والحقوق والتّشريعات، فقه يعتبر بيعة السلطان مقدّمةً على أرواح النّاس وحرماتهم لأنّها ضامنة للوحدة والأمن من الفتنة، بل وقع الإعلاء من شأن البيعة لتكون شرطا للإيمان “من مات وليس في عنقه بيعة لإمام فقد مات ميتة جاهليّة” بهذا يصبح كلّ نقد للإمام أو إظهار لأخطائه وعيوبه استهدافا للأمّة في أمنها وسلمها واستقرارها،
اعتبر الخاشقجي منشقّا وهو توصيف لمعارضي النّظام حتّى الذين بقت في عنفهم بيعة حافظوا عليها ولم يعلنوا نقضها وقتل بتلك الطّريقة البشعة بأمر سياسي ومسوّغ فقهيّ في زمن الديمقراطيّات والمنظومات القضائيّة المتقدّمة، تتحوّل الدّولة إلى عصابة تلاحق معارضيها وتنفّذ فيهم حكم الشّرع المزعوم تحريفًا لرسالة الدّين وتشويهًا لأحكامه وقيمه، لن يجرؤ فقهاء السّلطان وهيئاته الشّرعيّة على التّصريح بالحكم الفقهي المسوّغ للجريمة الذي تجيش به نفوسهم لأنّ الزّمن غير الزّمن، ممّا يطرح سّؤالا حوهريّا :
ما مدى قدرة هذا الانتظام السياسي الوسيط رغم المظهر الباذخ والبرّاق على الصّمود في وجه الحداثة السياسيّة وما اقتضته من تجديد في منظومة السياسة الشرعيّة والفكر الإسلامي عموما للمواءمة بين الإسلام والحداثة مهما كانت صورتنا عن قيمة هذا الجهد المعرفي ؟
قد يمكّن هذا الاحتماء بالتّطبيع مع الكيان الصّهيوني الغاصب وحليفه من خلال الانخراط بقوّة في صفقة القرن، من تأجيل تهاوي هذا الانتظام القديم ولكن سيكون ذلك سيرا عكس منطق التّاريخ وقوانين الاجتماع البشريّ،
هذه الجريمة القاصمة الكاشفة لشكل قديم من الانتظام السياسي لا عاصم لها اليوم ولا عاصم منها ومن تبعاتها إلا بذل الجهد الحقيقيّ في الإصلاح الجذري والانخراط في الزّمن الرّاهن.