سجن القصرين، نوفمبر 1987، كتاب “أحباب الله”، ص 19-21:
أفقت، سيّدي عاريا تماما، على ضوء سماء شاحبة لما قبل المغرب، من ذلك اليوم الحزين البائس إنما دون أيّ إحساس بالبرد على أصوات الكلاب النابحة في مكان ما من الرواق المغلق للدائرة الجهنّمية لسجنكم الحكومي الموقّر والمحكوم بقوانين غير أرضية.
جريت طويلا وأحرجني للحظات أني أجري عاريا قبل أن تدركني الكلاب الحكومية الرسمية المدرّبة على تمييز أعداء الدولة من بين المواطنين الصالحين. ويبدو أنّ نجاحي في الهرب لم يكن إلاّ ليزيد الكلاب إصرارا على طلب لحمي. كانت المرّة الأولى في حياتي التي جعلتني قبل ذلك في مواجهة كلب يفترسني عندما كان عمري تسعة أعوام عند دوار أحد أقاربنا.
تقدّمت نحو بيت قريبنا دون توقّع الخطر، هاجمتني كلبته الشرسة فعدوت بفزع أرنب. أعدو وأراوغ الكلبة في محيط الدوار على أمل أن ينقذني أحد لكن دون جدوى، يدفعني الرعب إلى النظر إلى الخلف فأرى لعاب فمها المفتوح على أنيابها وعينيها المفترستين فأحسّ أنها قد أدركتني، أحسّ أنّ قلبي يكاد يخرج من حلقي وأتخيّل أنيابها تمزّق بطني فتندلق أمعائي إلى الأرض فأموت يا أمي، وعيني حيّة. كانت أمي قد أرسلتني في غياب أبي إلى قريبنا الذي كلّفته الدولة بتوزيع إعانات حصص الخبز والدرع على أبناء الفقراء لكي يسجّل إخوتي في قوائم الفقراء المحتاجين. لا أدري لماذا لا أخاف من الكلاب إلاّ على بطني، حيث أحسّ أنّ روحي وأشياء مهمّة لبقائي حيّا توجد في بطني. أسمع وأنا أجري حول الدوار صرخات متباعدة ومتضاربة، كلّ صوت يدعوني للهرب إليه لكن لا أحد كان يأخذ رعبي كما أحسّه لذلك أجري معوّلا فقط على ساقيّ وعلى غريزة حبّ البقاء، تدركني الكلبة أخيرا إلاّ أنّها لا ترتمي على بطني بل على فخذي من الخلف وتنشب أنيابها فيه إلى أن تجتمع في لحمي وتشدني إليها فأقع أرضا. تجرّ جسمي وتهزّني بعنف الحيوان المفترس كما لو كنت جثّة فريسة. لم أحسّ بألم لحظتها، بيد أنّ كل ما أذكره هو الطعم المعدني لأنيابها وطعم لعابها في لحمي كما لو كنت أنا الذي أفترسها بلحم ساقي. سأذكر كذلك الصرخات التي لم تعد تجدي ساعتها لطرد الكلبة ومنعها من تمزيق جسمي الحيّ، أذكر كذلك إحساسي بأني كنت الفريسة وهو ما خلّف لي جرحا لا يندمل في الروح، وهو إحساس تجدّد كلّما رأيت كلبا رغم حبّي الشديد للكلاب.