قبل ذلك، في صبيحة يوم 7 نوفمبر 1987، ظلّت ساحة سجن القصرين خالية ولم تفتح أبواب الأجنحة في توقيت فتحها صباحا وأحسسنا أنّ أمرا خطيرا قد حدث في البلاد. جاءنا حارس شاب عند التاسعة صباحا وقال لنا عبر قضبان الجناح: “ثمّة أمر خطير، لقد وقع انقلاب على بورقيبة”.
ثمّة تلفاز في كلّ غرفة، لكن الحرّاس تعوّدوا قطع الكهرباء عنه من الساعة العاشرة ليلا حتى السادسة من مساء اليوم الموالي. ثلاثة منّا كانت لهم أجهزة راديو ترانزيستور صغيرة ، لكن اثنين منها كانا قد حجزا قبل ذلك والثالث أصيب بعطب قبل هذا الحدث بيومين، حاول كثيرون منّا إصلاحه بلا جدوى ثم انتهى صاحبه إلى ضربه بقوّة على الجدار فتحطّم أشلاء.
ظللنا نتوقّع كلّ شيء، وظهر مساجين السياسة للنقاش وإعطاء رأيهم حول هويّة من جازف بالانقلاب على بورقيبة، وغامر مساجين السياسة بتوقّع الإفراج عنهم في ذلك اليوم أو الأيام التي تليه. استمعت مثل العديد من التلاميذ والطلبة إلى مثل تلك الآمال الواسعة حتى دقّ أحد المساجين المقرّبين من الإدارة على بوّابة الجناح الحديدية صارخا: “افتحوا التلفاز… لا ظلم بعد اليوم”.
جرينا إلى التلفاز الذي سرى فيه التيّار أخيرا بعد منتصف النهار بقليل، رأينا أخيرا خطاب زين العابدين بن علي في القناة الرسمية. صرخ مسجون في ساحة جناح العملة: “لا ظلم بعد اليوم؟ إذن أخرجونا من هنا”.
حذّرنا الحرّاس من أيّ تجمهر أو أيّ عمل مخلّ بتراتيب السجن، “سنفرض عليكم البقاء في الغرف عند أيّ محاولة لإحداث التشويش” قال محذّرا وهو يلوّح ببندقية في يده. طاف نائب مدير السجن على الأجنحة مقدّما تطمينات للمساجين السياسيين بصفة خاصّة، ومعلومات قال إنها جاءته من العاصمة حول تمتيع الآلاف من مساجين الحقّ العام بالتخفيض من العقوبات.
وفي المساء انتشرت إشاعة قويّة في السجون حول الإفراج عن مساجين ثورة الخبز “جانفي 1984”. كانوا بالمئات في السجون محكومين بعقوبات مطوّلة تصل إلى السجن مدى الحياة وبعضهم كان محكوما بالإعدام وحظي بالعفو الذي يتحوّل آليا إلى السجن الأبدي، حتى أن أغلبهم شرع فعلا في إعداد نفسه لمغادرة السجن.
وفي اليوم الموالي، بدأت الإشاعة تتأكّد، حيث تمّ الإفراج عنهم جميعا، أيّا كانت عقوباتهم، فيما ظلّ أمرنا نحن غامضا دون أيّ وعد بالعدل.
في الواقع، كان نظام الرئيس بورقيبة قد منحني مثل آلاف المساجين تخفيضا في العقوبة في مناسبتين بعام كلّ مرّة، إنما دون أيّ تمييز لي بصفتي تلميذا، بل فقط في إطار عادته القديمة في العفو الأبويّ على المساجين. وهكذا أصبحت العقوبة النهائية ثلاث سنوات سجنا بدل خمسة أعوام، قضيت منها يوم انقلاب بن علي على بورقيبة قرابة العامين، وكان يفترض في أسوأ الحالات أن أغادر السجن في منتصف شهر جانفي 1989، غير أنّي أصبت بخيبة أمل مثل المئات من التلاميذ والطلبة المساجين لما كنّا نتوقّع أن نكون أوّل المستفيدين من العهد الجديد بالاعتراف بأننا كنّا ضحايا العهد السابق. وبعد بدء حكم بن علي، تمّ أيضا العفو على المئات من مساجين الحركة الإسلامية الذين كانوا يقيمون في غرف خاصّة بهم في أيّ سجن ينقلون إليه.
قضيت أياما من الاكتئاب والانتظار دون جدوى، رغم ما قاله لنا بعض مسؤولي السجن من أن الدولة ستطلق سراح جميع المسجونين لأسباب سياسية وأن المناسبات الدينية والوطنية كثيرة لمثل ذلك. لكني لم أحظ بأيّ شيء منذ بداية عهد بن علي حتى فجر يوم السادس من نوفمبر 1988، وأنا في جناح المساجين العملة بسجن القصرين.
كتاب: “أحباب الله”، ص 144