في تقييم خطاب رئيس الجمهورية اليوم اختلفت الآراء من النقيض إلى النقيض. فمن مُبشّر بنهاية مغامرة الشاهد إلى مؤكّد أنّ الباجي ما زال يناور من أجل الانقلاب على القوانين وتجاوز صلاحيّاته التي قيّدها الدستور. مثل هذه الاستنتاجات تعكس « موقفا » قبليّا متحجّرا بقطع النظر عمّا ورد في الخطاب. وبعض الأسئلة التي ألقاها من حضر من الصحفيّين تؤكّد ذلك وتدلّ فعلا على أنّ تشخيص الأزمة السياسيّة المستفحلة يخضع خضوعا يكاد يكون مطلقا للخلفيّات الإيديولوجيّة والسياسية ولمنطق المواقع والمصالح مثلما تجسّده بعض القنوات التلفزيّة التي تحوّلت إلى عامل توتّر وتأزيم أكثر عوض أن تكون وسيلة تثقيف وتنوير وتعبير عن المشاغل الحقيقيّة للتونسيّين.
والحقيقة أنّ أهمّ ما استنتجته من هذا الخطاب المهمّ في هذه المرحلة السياسيّة الحرجة والمتأزّمة:
أوّلا : أنّ الباجي يظلّ رغم كلّ المآخذ عليه في المدّة الأخيرة رجل دولة بأتمّ معنى الكلمة مثلما استنتج الكثيرون. فرغم تبرمّه وتحسّره وإحساسه « بالظلم الشديد من ذوي القربى » وبأنّه فقد « هيبتهّ » التي تلت انتخابه بعد 2014، فإنّه رفض كلّ نزعة انقلابيّة على الدستور (على الأقلّ بطريقة مباشرة صريحة)، بل ردّ بمبدئيّة صريحة على أحد صحفيّي نسمة الذي وجّه إليه سؤالا كانت الغاية منه المطالبة بتعطيل عمل الحكومة وحلّها، بأنّه يرفض رفضا مطلقا أن يعطّل عمل الحكومة وألاّ يصادق على تركيبتها متى صوّت مجلس النوّاب لصالحها.
ثانيا : أنّه بدا متأثّرا كلّ التأثّر « بتهميشه » وبنزول شعبيّته -على عكس ما كان عليه الأمر قبل سنتين- وبتجريده من صفة محوريّة كانت أغلب الأحزاب تسلّم بها: نعني اعتباره رجل وفاق، لا بصفته رئيسا للجمهوريّة فحسب بل باعتباره « حكيما » وصاحب تجربة طويلة، وأنّ » مستقبله وراءه » كما يقول، وأنّه بمقتضى ذلك «يقف على مسافة واحدة من كلّ الأحزاب» كما ردّد ذلك في مناسبات كثيرة.
ومن المسلّم به أنّ أداء قيادة النداء في الأشهر الأخيرة بلغت درجة من « الرّداءة » ومن « الارتجال » و »الأنانيّة » و »الصّفاقة » و »انعدام المسؤوليّة » ما يمكن أن نختزله في المثل المعروف « يفعل الجاهل بنفسه ما لا يفعله العدوّ بعدوّه ». وكان من الطبيعي أن يفقد هذا الحزب الذي لم ينج من تبعات « الولادة المبكّرة » كما سمّيناه في مقال لنا سابق، كلّ إشعاعه ومكانته وثقله، وأصبح بكلّ بساطة حزب « ابن أبيه »، ينتدب للحديث باسمه أو لتولّي شرف أمانته العامّة: شخصيّتين أقلّ ما يقال فيهما أنّهما أشبه بالمضاربين في المال والأعمال والسياسة وأنّهما لا يحظيان بأيّ تقدير ولا احترام عند أهل « النهى » والمعرفة بالتاريخ وتقلّباته: أحد الأذرع الإعلاميّة لنظام السابع من نوفمبر برهان بسيّس، ومن كان منذ أسابيع قليلة محجّرا من السفر بسبب شبهات فساد ماليّ: سليم الرياحي.
ما زاد الطين بلّة أنّ سيادة الرئيس عجز عن أن يظلّ على الحياد وناصر ابنه بشكل علنيّ وصريح، إلى درجة أنّ عدد نواب النداء الذين شقّوا عصا الطاعة كانوا أكثر عددا وأكثر إشعاعا ممن بقوا، والخروج والبقاء في النداء يخضع خضوعا مطلقا تقريبا لمنطق المصالح. وما مثال رضا بالحاج –أحد القياديّين الذين تمرّدوا وأسّسوا حزبا جديدا ثمّ اسْتُتِبَ فتاب وأعلن الرجعة – إلاّ نموذج على هذا السقوط الأخلاقي.
لكلّ هذه الأسباب كان الباجي أثناء خطابه يردّ بين الفينة والأخرى على ما راج ويروج في الساحة من اتهامه بالتوريث ومحاولة الالتفاف على الدستور وعدم احترام صلاحيّات رئيس الحكومة، بلهجة هادئة في الشكل لكنّها « موجوعة » في العمق.
ثالثا : خطاب الباجي كان خطابا سجاليّا حتى لئن لم يذكر دوما خصومه الجدد: كتلة الشاهد والنهضة، وكان خطابا دفاعيّا، اتّخذ في بعض ردهاته شكل التعالي بل «الكِبر» بالمعنى السياسي والشخصي، فكان أن أشار إلى أنّ الشاهد لا يمكن أن يكون له ندّا، وأنّه هو الذي كان وراء تشريك النهضة في الحكم، بل تمثّل بأبيات شعريّة كثيرة لا نشكّ لحظة في أنّه استعدّ لها وبرمجها ولم تكن من وحي اللحظة كما يمكن أن يظنّ البعض. وحين ينشد رئيسنا مطلع لاميّة السموأل الشهيرة:
إِذا المَرءُ لَم يُدنَس مِنَ اللُؤمِ عِرضُهُ *** فَكُلُّ رِداءٍ يَرتَديهِ جَميلُ
وحين يضيف البيتين الثالث والرّابع:
تُعَيِّرُنا أَنّا قَليلٌ عَديدُنا *** فَقُلتُ لَها إِنَّ الكِرامَ قَليـــــــلُ
وَما ضَرَّنا أَنّا قَليلٌ وَجارُنا *** عَزيزٌ وَجارُ الأَكثَرينَ ذَليل
فلا يمكن أن يكون ذلك مجرّد تفكّه أو استطراد بل قصد من خلاله توجيه رسالة والأصحّ التعبير عن » وجع » ما استطاع أن يخفي آثاره. فكان أن وصف بطريقة غير مباشرة سلوك الشاهد باللؤم والشاهد نفسه « باللئيم »، والأمر نفسه ينطبق على حزب النهضة التي كثيرا ما ساندت مساندة مطلقة « فخامته »، لكنّها « يوم الوقيعة » أدبرت، و »قلبت له ظهر المجنّ ».
لا نشكّ في أنّ السيّد الرئيس/ الأديب، صاحب المواهب الخطابيّة الكثيرة قد فكّر في بيت شعر أكثر مباشرة في التعبير عن «محنته»، وهو بيت المتنبّي:
إذا أنتَ أكْرَمتَ الكَريمَ مَلَكْتَهُ *** وَإنْ أنْتَ أكْرَمتَ اللّئيمَ تَمَرّدَا
لكنّه أعرض لعلمه بأنّ « التعريض » (نوع من أنواع الكناية) أبلغ في التعبير عن المعنى من التصريح والمباشرة.
رابعا وأخيرا : لعلّ أهمّ استنتاج يلخّص كلّ ما سبق أن توقّفنا عنده، يتمثّل في اعتبارنا خطاب الباجي خطاب وداع، وخطاب استعداد لطيّ صفحة من تاريخه الشخصي وتاريخه السياسي، فكان أن ذكّر بمآثره وبأنّه آخر « البناة » لدولة الاستقلال، وأنّه قيّم على المصلحة الوطنيّة وأنّه لن « يتمرّد على الدستور »، وأنّ الكلمة الأخيرة للشعب ونوّابه. وممّا يحسب للباجي أنّه ببلاغته « وحسن تخلّصه بالحجج »كما كان يقال عن الحجّاج بن يوسف، جسّد صورة السياسي المحنّك وصورة السياسي الجديد الذي استوعب درس الثورة ودرس الديمقراطيّة، فكان أن تجنّب المكابرة ولغة التصعيد والتحدّي، حتى وإن عبّر عن امتعاضه من سلوك رئيس الحكومة وعدم مسايرته لما أقدم عليه.
موقع إسطرلاب