إذا كانت حدود السيطرة في عالم البرّيّة المتوحشة، ترسم بالبول والبراز، فإن في عالمنا اليوم، عالم الحداثة، والديمقراطية، وحقوق الإنسان، ترسم حدود السيطرة بالدّم والأشلاء على الأرض، وبالأمواج العالية التردّد، في سماء كهرومغناطيسيّة مفتوحة على أبواب الجحيم الثقافي، طوارق ثقافية، تدكّنا دكاّ، ونحن في حالة من الذهول، نردّد طلاسم إيليا أبي ماضي خلف موسيقار الأجيال “جئت لا أعلم من أين ولكني أتيت، ولقد أبصرت قدّامي طريقا فمشيت، مشينا اليوم ما يزيد عن ستين سنة، وكم سنمشي بعدها من عام إن لم ندرك أن التغيير أصبح حتمية، بل وقرار بقاء أو فناء.
قلت في مقال سابق عن مقتضيات التغيير، أن العمل البشري عموما يمرّ عبر مراحل نفسية ذهنية داخلية ثلاث، وهي الحسّ، والإدراك، والنزوع، وسلامة أي فعل واقعي ودرجة رقيّه وسموّه مرتبطة بطريقة آلية بسلامة هذه المراحل صعودا ونزولا، فالإصلاح أيّا كان نوعه إذا قفز على هذه المراحل النفسية الذهنية لا يمكن أن يكون إلا نوعا جديدا من الإفساد وإن بدى في ظاهره إصلاحا، وإن واكبته طفرة في هذا المجال أو ذاك، فإنه يظلّ يحمل في داخله خلايا تدميرية ذاتية طالما لم يستند إلى ربط وسائل الإحساس والإدراك بمنابعها الفطرية الإنسانية.
نعيش اليوم في مجال سماء مفتوحة على أمواج عالية التردّد تقتحم علينا حتى بيوت نومنا وبيوت نوم أبنائنا وبناتنا، تعطّلت معها كل أنواع وسائل الرّقابة والمنع التقليدية والحديثة، وأمام هذا الكمّ الهائل من الضخّ اليومي لثقافة “الأقوى والأقدر” على رسم حدود أبعد في الأرض كما في السماء، فإنه يصبح من واجب الدّولة كما من واجب العائلة البحث عن وسائل تعديلية تمكّن في حدّها الأدنى من إمتصاص ما أمكن من هذه التموّجات العالية التردّد، وذلك للمحافظة على سلامة وسائل الحسّ الوطني من التلوّثات السّمعية البصريّة والتي سينجرّ عنها “وقد حدث”، تطبيعا مريبا مع الرذيلة بأنواعها وبالتالي إفساد لكل ما يبنى على هذه الوسائل من إدراكات ملوّثة، تلوّث بدورها كل النّوازع البشرية في المجتمع وهو ما نعيشه اليوم في مجتمعنا وسط حالة من الذهول ورضوخ مذلّ لقوانين العولمة المتوحّشة.
الثقافة أيا كانت مفاهيمها الفلسفية، يفترض أن تؤدي في مآلاتها لإنتاج تنمية فكرية وروحية وجمالية للإنسان تمكّن تراكماتها في الزمان والمكان من ترسيخ سلوك جماعي مبني على أسس الفكر والفنّ الرّاقي، فوسائل معالجة النزوع الإنساني تنبني أساسا على هاتين الدعامتين (الفكر والفن)، وتكون بالتالي مهمّة الدولة أن تعمل على تطوير هذين المجالين وكل ما يتفرع عنهما في حياة المجتمع من تربية وتعليم وإعلام وفنون ومسرح وسينما ومن بنى تحتية تمكّن بدورها من ممارسة الأنشطة الفكرية والثقافية اللازمة التي ستمكن في النهاية من إرساء المنوال الثقافي الوطني أو “المشروع الثقافي الوطني” الذي سيؤسس لسلوك ثقافي مميز لمجتمع طالما تغنّى الناعقون المبرمَجون بإمتداد جذوره التاريخية لثلاثة آلاف سنة.
المادة الثقافية، أو الموجة الثقافية المحمولة، تتطلب قبل أن نتحدث عن محتواها موجة عالية أكبر تحملها كي لا يضيع محتواها، هذه الموجة الحاملة لا تقل أهمية عن الموجة المحمولة، وأيّ خلل فيها يتسبب في ذهاب الجَمَل بما حَمَل، ومن يجلس اليوم على أريكته ويفتح جهازه أو أداته للتنمية الثقافية (تلفزة، أو هاتف، …)، يخرج منه أجهل مما دخل إليه، لثلاثة أسباب رئيسية، الأول هو العرج الفكري المنتج للمادة الثقافية، الثاني رداءة المادة الثقافية نفسها، والثالث، العمى الإيديولوجي الذي يحرك المقدّمين لهذه المادة والمبشرين بمنوال ثقافي حداثي.
لا أحتاج لكثير من الذكاء، أو لعبقرية خارقة، كي أثبت أنّ المنوال الثقافي المعتمد منذ الإستقلال إلى اليوم كان ولا يزال منوالا أعرجا، فالأمور بمآلاتها، والسياسة عموما تقاس بنتائجها على الأرض، فتعامل المواطن التونسي مع الفضاءات العامة (حافلات النقل العمومي والحدائق العامة وأسواق الخضر مثالا)، ومع البيئة (طريقة التعامل مع القمامة مثالا)، ومع الناس في الطريق العام (حركة السيارات في ساعات الذروة مثالا)، ومع الجيران (الأفراح والمسرات مثالا)… هو الممارسة الفعلية للبرمجة الثقافية للفرد، وتعامل المؤسسات العامة من بلديات (طريقة رفع القمامة مثالا) والمستشفيات ووسائل النقل العمومي والإدارات مع المواطنين هي كذلك ممارسة فعلية للبرمجة الثقافية لأجهزة الدولة وبالتالي لمسؤوليها السياسيين والإداريين المشرفين على العمل اليومي لهذه المؤسسات والإدارات…، ولا أراه يصح عليها إلا مثلا شعبيا يستعمل للتّعبير عن ضحالة صابة الحبوب “كَانْ هَذَا زَرْعِكْ يَاخَالِي خَلِّيتْ اُلْمِنْجِلْ فِي اُلدَّارْ “.
ونحن نتحدث عن المنوال الثقافي في سماء مكتضة بالثقافات الرقمية ومعبأة بمنصات متحركة حاملة لرؤوس ثقافية مدمّرة عابرة للحضارات والخصوصيات المجتمعية، يجب أن نتحدث عن دفاعاتنا الأرضية والجوية وعن قبة حديدية تجعلنا كشعب تونسي عربي مسلم في مأمن من هذه الوسائل الحربية الناعمة التي قادتنا في حدّها الأدنى إلى رقمين مفزعين، عملية طلاق فعلية كل خمسة وأربعين دقيقة، وحالة ولادة فعلية خارج إطار الزواج كل ستة ساعات، رقمان فقط، يبرزان الخلل أو الإعاقة الذهنية التي أصابت الفكر والثقافة لدولة الإستقلال، وأترك هذا المقال مفتوحا لأن الحديث فيه يجب ألا يتوقف، لأن الفكر والثقافة هما الأداتان الفعّالتان في معالجة النفس البشرية.