الإتحاد ليس ملكا لأشخاص
الإتحاد العام التونسي للشغل أيقونة البلاد التونسية
إذا الشعب أراد الحياة * فلا بد أن يستجيب القدر
ومن لا يحب صعودَ الجبال * يعِشْ أبد الدهر بين الحُفر
هذين البيتين من أرقى ما قيل في الشعر العربي القديم والحديث بل وحتى الإنساني، فقلما عرفت البشرية أن شاعرا خلد إسمه ببيت شعر واحدة…
“أحبك يا شعبْ” جملة قصيرة، شاملة، معبرة، سامية في معناها. من الصعوبة بمكان أن تَجِدَ مَثِيلتِها في عالم النثر… فهذه الجملة تَخْتَزِنُها الذاكرة الشعبية، تُستحضر بوعي وبدونه عند الشدائد والزلازل، فهي دعوة للرُّقي بالإنسان بالمحبة. فإذا سادت المحبة بين الناس تنتفي بعدها الأنانية والكراهية وكل سلوك مُشين. فالسلوك الجَمعي المُكتسب محُدِّد رئيسي في مدى إيجاد الآليات والمكنزمات المناسبة الذكية لكسب معركة العلوم ثم التنمية. فبدون احترام متبادل بين الناس لا يمكن أن نتحدث عن تنمية وإصلاح منظومات الحياة… وما أكثرها. هذا السلوك الاجتماعي إن ساد بين الناس من ناحية يوفر الأرضية الخصبة لتطبيق القانون بكل صرامة بين الناس ومن ناحية أخرى يكون سدا منيعا أمام المتربصين والمتاجرين بحقوق الناس داخليا وخارجيا. هكذا تُبنى الأُمم وتكسِبُ مناعتَها وسيادتَها.
أحبك يا شعب هكذا صدح بها حشاد متوجا بها عمل نضالي امتد منذ 1936 بإحدى شركات النقل البحري الذي طُرِدَ منها سنة 1939م لنشاطه النقابي ودفاعه المميت عن الطبقة الشغيلة وعن هاجسه الوطني… أنشأ بعدها في 20 جانفي 1946 منظمة الإتحاد العام التونسي للشغل بمعية العلامة محمد الفاضل بن عاشور وانتُخِب كأول أمين عام للمنظمة، مما أهله عضوا مساعدا للإتحاد الدولي للنقابات الحرة.
كانت منظمة حشاد النِّبرَاسُ النَّيِّرُ للحِراك الوطني في مواجهة قوى الشَّر الفرنسي وفي سنة 1952 تولى مسؤلية قيادة المقاومة بمعية قيادات تاريخية راسِية في الجبال كالدغباجي والبشير بن سديرة والأزهر الشرايطي والساسي الأسود وبقية رجالات الفلاقة، فاشتدت التحركات الشعبية تزامنا مع انتهاج الكفاح المسلح، فكان تلاحما صادقا وطبيعيا مبشرا بتحقيق أماني البلاد والعباد، لِتتحالف قوى الشر في الداخل قبل الخارج لاِجهاض الإستقلال التام، ولنكون على ما نحن فيه اليوم من تبعية وتخلّفٍ في العلوم خاصة… ولتبقى كتابة الفصل الثاني وإتمام المسيرة تُراوح مكانها حتى يَكسِبَ هذا الشعب المِقدار اللَّازم من العلم والمعرفة ثم الوعي والإدراك والحكمة. ولتبقى كذلك مسيرة حشاد الذي أقضى مضجع فرنسا حيا في تونس، وألهب صدور جماهير العالم الحر وقَوَّى شوكة المقاومة خارج تونس ميتا. سيضل إسمه يحلق عاليا في سماء كل الشعوب الحرة، وإلى كل نفس بشرية ترنُو إلى الحق… فامتدت لَهُ يد الغدر بأوامر فرنسية سنة 1952م.
ففي هذه الملحمة الوطنية كانت منظمة الإتحاد العام التونسي للشغل طرفا أساسا التي صاغتها بإخلاص وتفاني، وبالتالي أعطت لنفسها حق التَّمَلُّك لكل التونسيين الشرفاء.
فليس من حق أي كان أن يختزل الإتحاد في شخصه أو جماعته، وبناءً عليه لا يحق لأي نقابي مهما كان موقعه أن يتكلم باسم المنظمة إن لم يرتقي بأفعاله قبل أقواله إلى مستوى منظمة حشاد.
كفانا عبثًا واستهتارًا بمكاسب الإتحاد، ونحن نقف منذ عُهدة الحبيب عاشور على تعدٍ صارخ لميثاق المنظمة من قِبل المكاتب التنفيذية المتتالية.
فليس من حق أمينها العام وأعضائه اليوم في 2018 أن ينصبون أنفسهم أوصياء وينفون هذه الصفة على بقية المنخرطين، فالمنظمة ملكٌ ُمشاع لكل التونسيين، وهي إرث إجتماعي، مَن دَخلها مؤتَمَنٌ على حقوق الناس مُحافِظٌ على ميثاقها، رَافِضٌ لكل تَجيير لأي جهة أو حزب.
فالمقياس اليوم هو كالتالي: أي موقف متخذ من قِبَلِ المكتب التنفيذي، إن لم يُراعي فيه المصلحة العليا للبلاد، وأمنها القومي، وسيادتها فهو يرتكب من حيث يدري جريمة أخلاقية ومادية في حق الشعب التونسي…
ولنفترض جدلاً أن المكتب التنفيذي الحالي اتخذ في هذه الفترة الحساسة من تاريخ البلاد مواقف تصحيحية صادقة، فإلزامية محاسبة كل من خرق ميثاق المنظمة أَمرٌ حتمي.
فإهدار مال المنظمة لا يتطلب بحثًا دقيقا فالمدخول السنوي يفوق 40 مليار، ولا نرى له أثر في واقع منظورِيها (صندوق للمتضررين = الطرد التعسفي، وحوادث الشغل، الاستحقاقات الصحيَّةُ المكلفة للأمراض المزمنة ووو).
إضافة إلى كل هذا البلاد اليوم في حالة فراغ قانوني رهيب، فلا محكمة دستورية ولا تنقيح لكل المجلاَّت القانونية والعقود المشتركة.
فبعد هذا الطرح البسيط أقول إن هذا الصرح الذي بناه حشاد بمعية الوطنيين الصادقين محفورًا في الذاكرة الشعبية. يجب أن يبقى رافدًا أساسياً للحِراك الجمْعي وذلك بمساهمته مع المؤسسات الفكرية الناشئة لإنتاج فكرً اجتماعيا قادرا على مواجهة توحش رأس المال تحت معادلة الإستثمار والتنمية.
والقول بأن أعضاء المنظمة اليوم هم امتداد لمنظمة حشاد أكذوبة كبرى لا يصدقها عاقل فحشاد لم يستمع إلى خِطَابَات حسين العباسي في كل محطات عيد الشغالين وهو يشيد بعهد السابع من نوفمبر، ويَخرسُ أمام كل الجرائم الإقتصادية لعصابة الطرابلسية، وقبله كان عبد السلام جراد وأعضائه -المستمرون إلى اليوم- يتمسح بأسلوبٍ مقرف في المناسبات الوطنية (أنظر خطابه في عيد الشغل 2010 خاصة).
وفي 13 جانفي 2011 بعثت منظمة حشاد في حق ممثليها القانونين جراد والعباسي بالوثيقة الإدَانة، واضحة المعالم لا لبس فيها، اعترافات صارخة وناطقة، مساندة الدكتاتورية النوفمبرية، التغطية على شبكات الفساد، الإِصطفاف التام إلى جانب الثورة المضادة.
والدلائل كثيرة، منها المشاركة الوقحة فِما سُمِّيَ باعتصام الرحيل، الإصطفاف التام مع رموز الدولة العقيمة والعَميِقة لتعطيل الإنتاج بـ 40 ألف إضراب (لو أصاب ربع هذا الرقم ألمانيا لأُصيبت بشلل إقتصادي لربع قرن)، مما تسبب في إغلاق عشرات المؤسسات.
وهذا نص البيان:
الإتحاد العام التونسي للشغل
الأخ الرئيس زين العابدين بن علي
إن الإتحاد العام التونسي للشغل يُدين الأحداث التي جدت بعدة مناطق بالجمهورية والتي كشفت فيها السلطات مآرب هذه الفئة الظالة ومن يقودها
كما تصدى شرفاء الإتحاد العام التونسي للشغل لإحباط عدة مظاهرات والضرب على الآيادي الخفية التي تسير ما يسمى بثورة المنتحر البائس محمد البوعزيزي.
كما نعلمكم أن الإتحاد العام التونسي للشغل بكامل خبرته وحنكته في مثل هذه الظروف العصيبة أن يحول التجمعات في تونس والشعارت بأن ننادي بالمطالبة بترشيحكم سنة 2014 والتي يتمنى الإتحاد العام التونسي للشغل أن يواكبها إعترافا لكم بما قدمتموه لهذا الوطن العزيز ولتونس التغيير٠ كما أعددنا جملة من الأدلة الموثقة ضد من نعتبرهم رموز الفتنة وهم قياديي المظاهرات في كامل تراب الجمهورية أمنتنا بها ممثلو النقابات المحلية والجهوية ضد المحتجين و المعتصمين أمام الوزارت والولايات والمعتمديات و المؤسسات والشوارع يعطلون الإقتصاد والأعمال محاولين إحداث البلبلة والفوضى وإن لهم بالمرصاد للحفاظ على المكتسبات والمصالح الوطنية
تونس في 13 جانفي 2011
والسلام
الإمضاء عبد السلام جراد
هذا لَعَمْرِي وثيقة واضحة المعالم، تُلخِّصُ بكل وضوح المسيرة الخفية التي انتهجها الإتحاد بعد فترة الحبيب عاشور. بيان تاريخي لسقوط أخلاقي دراماتيكي، فيه من الدلالات والإعترفات الواضحة والجلية، تُدين كل من تحمل مسؤولية داخل الإتحاد من عضو قاعدي إلى أعضاء المكاتب الجهوية إلى أعضاء الجامعات وُصُولاً إلى أعضاء المكاتب التنفيذية.
والآدهى من ذلك أنهم مانفكُّوا إلى يوم الناس هذا يَصُمُّونَ آذانهم عن سماعِ الحقيقة، بل تراهم في كل مِنبرٍ يَنفُوونَ بشراسة تعاونِهم مع نظام المخلوع كذِبًا وبُهتانًا،
والحال أن التنسيق والعلاقة الحميمية ثابتة بِالحُجَجِ والبراهين… مُتَناسينَ أن منظمة حشاد كانت مَلجأً لكلِّ مظلومٍ فحَوَّلُوهاَ مَلاَذًا إلى كُل مُتسكِّعٍ عِربيد، وكُلِّ حاقد على من يُخَالِفه الرأي لا أكثر، فمنذ فترة الحبيب عاشور بدأَ تواجُدِ قلة منحرفة من اليسار الإستئصالي لا وزنَ لهم اجتماعيا ولا قيمة لهم فِكريًّا أصبحت المنظمة بعدها تُأتَمَرُ بأوامرهم لتنسَاقَ بعدَها للتَّنسيق الكامل مع النكبة النوفمبرية خُفيَةً كخفافيش الظلام، يُحيكون الدَّسَائس وينتحِلونَ الكَذب ضد كل شرفاء الأُمة والوطنيين الأحرار، يبثُّون الخراب في كلِّ موقع ويزرَعوُن الفتنة أينماَ حلُّوا، يُساندُونَ الإستبداد داخل الوطن العربي بكل وقاحة، ويتظاهرونَ بالثورية داخل أوطان سايكس بيكو…
إنها حياة تعيسة لهؤلاء مغْمُوسُون حتى النُّخاع في الرداءة، ويسوِّقوُنَها على أنها الحداثة…
والمُتمعِّن في خِطابهم يقِف على مقدار الفتنة الذي دأبوا على بثِّها متَسَتِّرين بعَباءةِ الإتحاد لإنعدام وجودهم في المجتمع… وبالتالي واجب وطني وقانوني وأخلاقي محاكمة كل حزبٍ أو منظمة بدون استثناء يثبت ضده الإخلال بالأمن العام، أو تعديه على سيادة البلاد من خلال تلقِّيه أموالاً من جهات أجنبية خاصة.
وإقرارِ إضرابَين (عامين) 24 أكتوبر و22 نوفمبر الذي أقَرَّهُما المكتب التنفيذي دونَ الرجوعِ إلى قواعده كلمة حق أُريد بها باطل، فالإضراب حق شرعي لا جِدال فيه أقرَّته كل المواثيق، أما أن تُؤَمِّنَه عصابة الإتحاد الحالية بعد أن خَبِرنَا اصطفافها مع الثورة المضادة، فقرَارُهم مرفوض أخلاقيا.
فلا يُمكنُ لعاقِلٍ واحدٍ في هذه البلاد مُقتَنِع أنّ اضرابا عاما بيومينِ يُساهِم في إيجاد حُلول اجتماعية ولو بِقدر 5% أفي مثلِ هذه الظروف التعيسة التي تعيشُها البلاد يَتنافسُ الحَمقى على مقَدَّرَات البلاد ولا رادع قضائي يوقِفُ جرائمهم، هدفَهم الوحيد الغير مُعلَن إسقاط حكومة الشاهد خِدمةً للأجنداتِ أسيادِهم. فالمطلوبِ من الجميع العمل، ثم المحاسبة.
أخيرًا أقول إنَّ البلاد التونسية تمرُّ بأخطر فترة في تاريخها القديم والحديث، وللخروج من هذا المأزق التعيس َيتَأَتَّى برسم إستراتجيةٍ مستقبليةٍ من قِبَلِ الوطنين الصَّادقين وذلك بِتفعيلهم لحراكٍ شعبي يكونُ عبرَ إيجادِ منتدياتٍ شعبية في الفضاء العام لا في الصالونات المغلقة ونزل 5 نجوم ويُديرُها ويُشرفُ عليها أكادميون وباحثون تحت عنوان استراتجية المستقبل بدونِ محركات ايديولجية معطِّلة أو أموال داخلية وخارجية، لِصياغة بُنية إجتماعية مُجرَّدة تُحَدد المُؤثرات في مُجرياتِ الأحداث، نكونُ بعدها قد أوجدنا حاضِنة شعبية ارتفع عندها مَنسوب الوعي ألغت ببَداهتها كل فكر متطرف، وَحَيدت كل أيديولوجيا بغيضة وأبعدت أكثر ما يمكن من لصوص المادة والمعنى.