كوارث حكومية.. كوارث طبيعية

عبد اللّطيف درباله
لتدركوا جيّدا حجم الكوارث الحكوميّة في تونس.. التي هي أكبر وأضخم من الكوارث الطبيعيّة.. فيكفي أن تستمعوا لتصريحات بعض الوزراء والمسؤولين:
سمير بالطيّب وزير الفلاحة قال بأنّ الخسائر الناتجة عن فياضانات نابل والوطن القبلي “بسيطة”..!!!
يعني كلّ الشوارع والمنازل التي غمرتها المياه..
وكلّ الجسور والطرقات التي هدمت..
وكلّ المصانع التي أتلفتها الفيضانات..
وكلّ الضيعات الفلاحيّة التي دمّرها طوفان المياه الجارية..
وكلّ المحلاّت التجاريّة التي أتلفت المياه سلعها وتجهيزاتها..
ومئات السيّارات والشاحنات التي جرفتها وأغرقتها وعطّبتها وأهلكت محرّكاتها المياه..
والأضرار الفادحة التي لحقت بشبكات نقل المياه الصالحة للشراب وشبكات الكهرباء والغاز وشبكات الهاتف وشبكات مياه التطهير..
وكلّ الأثاث والأجهزة الكهربائيّة والالكترونيّة التي تلفت نتيجة غزو مياه الفيضانات للمنازل..
وكلّ المدارس والمعاهد التي أكلت المياه جدرانها وأقسامها..
كلّ ذلك المقدّر بمئات ملايين الدينارات اعتبره سمير بالطيّب “خسائر بسيطة”..!!!
طيّب يا سي الوزير بالطيّب..
مادامت الخسائر بسيطة كما قلت.. فلتعلم الحكومة التي تنتمي إليها جميع المتضرّرين بأنّها ستتكفّل بتعويضهم عن جميع “الخسائر البسيطة” التي لحقت بهم.. وإلى آخر دينار..!!!
من جهته أكّد محمّد صالح العرفاوي وزير التجهيز والإسكان والتهيئة الترابيّة بأنّ البنية التحتيّة لم تكن سببا في الفيضانات بنابل..!!
وكان نفس الوزير سبق وأن صرّح بعد غرق مدينة تونس بمياه الأمطار الاثنين الماضي بأنّ المواطنين هم السبب في الفيضانات..!!!
فعلا.. فكلام وزير التجهيز صحيح تماما.. فكلّ المدن التونسيّة مبنيّة وفق تخطيط عمراني عبقري.. ووضعت بها كافة وسائل تصريف مياه الأمطار بدقّة مبهرة.. والدليل أنّها لا تغرق فقط في الفياضات.. وإنّما تغرق حتّى إثر تساقط الأمطار لنصف ساعة فقط لا غير..
ومدننا حتّى الكبرى منها تغرق حتّى في مجرّد 50 مم من الأمطار..
بل أنّ الدليل الأكبر على تطوّر البنية التحتيّة للمدن التونسيّة.. هو أنّ مدنا ساحليّة يحيط بها البحر من كلّ جانب مثل بنزرت وتونس العاصمة ونابل والحمّامات وسوسة والمنستير وصفاقس.. تغرق في “شبر ماء” كما يقال.. حتّى أنّ المياه تبقى راكدة بالشوارع ليوم أو يومين وهي على بعد مئات.. وأحيانا عشرات الأمتار فقط من شاطئ البحر..!!!
طبعا نحن لا نتحدّث عن الصمود الأسطوري للطرقات والجسور التي تتشقّق وتنكسر وتسقط في كلّ مرّة بفعل قوى طبيعيّة خفيفة لا غير..!!!
فهل هناك أدلّة على سلامة البنية التحتيّة بتونس كما تباهى الوزير العرفاوي أفضل من مقاومتها الظاهرة والباهرة لمياه الأمطار من خفيفها إلى فيضانها.. كما يعاين المواطنون التونسيّون ذلك في الواقع مع كلّ أمطار قويّة..؟؟!!
ونصل إلى سلوى الخياري والية نابل.. فقد صرّحت أمس مع بداية الفياضات بأنّ “الوضع تحت السيطرة”.. مطمئنة بذلك الجميع.. وربّما “مخدّرة” بذلك حتّى السلط المركزيّة نفسها.. باعتبارها والية الجهة الموجودة على عين المكان.. والتي تصلها المعلومات من جميع الإدارات والمصالح بالولاية من الأمن والحماية المدنيّة والرصد الجوّي إلى وزارات الفلاحة والتجهيز والداخليّة والدفاع..
وطبعا بات الجميع يعرف اليوم بأنّ “الوضع تحت السيطرة” انتهى بأن غرقت نابل وعدّة مدن في مياه الأمطار مع الرابعة من بعد الظهر.. بعد حوالي ستّة ساعات فقط من بداية نزول الأمطار الغزيرة.. دون أي تدخّل جدّي وواسع للنجدة إلاّ بعد ساعات طويلة.. وليلا..!!!
لكنّ والية نابل لم تحفظ الدرس على ما يبدو.. ومضت في سياسة التهميش وسوء التقدير.. وخرجت يوم أمس.. ومع بداية انتشار أخبار وصور ومشاهد فياضانات نابل بكامل البلاد.. خرجت في تصريح للتلفزة الوطنيّة قالت فيه حرفيّا “لم نسجّل خسائر لا بشريّة ولا ماديّة والحمد لله”..!!
فقامت الصحفيّة بمقاطعتها قائلة لها حرفيّا: “ماديّة موجودة.. ثمّ جسور.. ثمّا مواطنين تضرّروا..ثمّا نزل أيضا دخلها الماء..”..
أي أنّ صحفيّة التلفزة كانت على علم بوجود أضرار جسيمة بالجسور والطرقات وبمنازل ومحلاّت المواطنين وبالنزل السياحيّة.. في حين أنّ والية نابل هي إمّا آخر من يعلم وهو ما يعني أنّها غير أهل لمنصبها.. أو أنّها تمارس سياسة الكذب والتمويه جهرا.. وهو ما يعني أنّها تصلح لمنصبها في مثل هذه السلطة الحاكمة اليوم..!!!
وبرغم تنبيه المذيعة لها.. فقد رجعت والية نابل سلوى الخياري لتواصل الكلام فقالت حرفيّا: “هذه معنتها في العالم أجمع وقت ألي تصبّ كميّات من الأمطار.. الأمطار تدخل النزل وتدخل للمنازل.. أحنا طالما ما عنّاش كراهب اللّطف مقلوبة في الكيّاسات.. أو طالما ما عنّاش ضحايا أو مجروحين.. ما عنّاش خسائر..”..!!!
أي أنّ والية نابل كانت الوحيدة ربّما في الجمهوريّة التونسيّة التي لم تر الصور ولقطات الفيديو المريعة لعشرات وربّما مئات السيّارات التي جرفتها سيول الفياضانات في الشوارع.. وغمرتها المياه إلى منتصفها أو إلى سقفها.. وعطّبت محرّكاتها.. وأتلفت مقصوراتها.. واصطدمت بعضها ببعض.. وبالمباني وبالأعمدة.. وصعد بعضها فوق بعض..!!
هذا برغم أنّ والية نابل تجلس بمكتبها وسط المدينة.. ويفترض أنّها منهمكة وقتها بتتبّع أخبار الكارثة هي وفريق عملها.. وتحت أمرتها كوالية تعدّ نائبة مباشرة لرئيس الحكومة بالجهة.. جميع الإدارات الجهويّة لجميع الوزارات بما فيها قوى الأمن والحرس والجيش..!!!
فلسلوى الخياري والية نابل.. وكما يظهر ونستنتج.. تعريف محدّد وخاصّ ومبتكر للخسائر الماديّة.. وهي أن تكون هناك سيّارات مقلوبة فوق الطرقات على ظهرها “كالفكرون”.. (!!) وإلاّ فلا تعدّ خسائر ماديّة ولا هم يحزنون.. حتّى ولو قالت لها المذيعة.. ونبّهتها.. أنّ المياه أتلفت جسوارا ومنازلا ونزلا سياحيّة..!!!
أمّا عن نفي الوالية للخسائر البشريّة فيمكن تبريره بتوقيت التصريح.. والذي جاء غالبا قبل الإعلان رسميّا عن أوّل حالة وفاة..
ولكن كان على الوالية في ظلّ ما تشهده الولاية من طوفان مياه ينذر بعواقب وخيمة ماديّا وبشريّا.. أن لا تجزم بعدم وقوع خسائر بشريّة.. وأن تكتفي فقط بالإعلان بعدم تسجيل ضحايا حتّى ذلك الوقت.. وتمنيّاتها بعدم سقوط ضحايا.. ووعودها ببذل الجهد في عمليّات الإنقاذ والنجدة والإحاطة لضمان ذلك..
أمّا اللغة البنفسجيّة القديمة التي تنتهج النفي والتزييف والتزيين ونشر زقزقة العصافير حتّى والبلاد تهزّها الكوارث.. فيفترض أنّها لغة قديمة تجاوزها الزمن.. ليس فقط بفعل الثورة والديمقراطيّة.. وإنّما بفعل مواقع التواصل الاجتماعي التي كانت سبّاقة لكشف حجم الكارثة في نابل وعموم الوطن القبلي.. بشكل لم تواكبه ولم تظهره الإذاعات والتلفزات العامّة والخاصّة.. إلاّ بعد افتضاح المستور..!!!
هذه فقط بعض النماذج والعيّنات من أوجه الفشل الحكومي..!!
فقد تأخّر التجاوب الحكومي مع فيضانات الوطن القبلي.. وعدم التفاعل مع المنكوبين بالشكل والسرعة التي تتناسب مع حجم الكارثة..
وأنّ أكبر كارثة في تونس هي الحكومة نفسها.. والمسؤولين الفاشلين..!!!
وحول أنّ الكارثة الطبيعيّة كانت كبيرة.. وأنّها تحدث في أكبر الدول.. وأنّه لا يجب لوم الحكومة على كلّ شيء..!!!
والحقيقة أنّ الكوارث تحدث فعلا..
وأنّ قوّة الله تغلب مهما كانت الاستعدادات..
لكنّ دور الحكومات هو التخفيف من حجم الكارثة ومن تضخّم المأساة ومنع ازدياد عدد الضحايا..
وذلك عبر الوقاية المسبقة..
وعبر الإحاطة اللاّحقة..
وعبر سرعة ونجاعة التدخّل وحسن تنظيم جهود النجدة والإسعاف والإنقاذ..
وباعتماد التخطيط لا العشوائيّة والاعتباطيّة..!!

سلوى الخياري والية نابل

 

Exit mobile version