مقالات

دلالة التجربة الإيرانية ودروسها المريرة

حسن أبو هنيّة

تقدم التجربة الإيرانية المريرة دروسا مهمة للمنطقة العربية والعالم حول ماهية السياسة والحوكمة وطبيعة التحديات والأولويات لأي نظام سياسي يسعى للتقدم والازدهار وتحقيق النفوذ والهيمنة، فقد كشفت الأحداث الأخيرة في إيران عن تفوق دينامية دور السياسات الداخلية أكثر من الخارجية، وأهمية رشادة تدبير الشأن المحلي على لعبة البحث عن النفوذ الإقليمي، ففي الوقت الذي كانت السلطات الإيرانية توسع من نفوذها الخارجي وتحتفل بسلسلة من الانتصارات في عام 2017، تكتشفت فجأة هشاشتها الداخلية عبر تنامي حركة الاحتجاجات السلمية وتصاعد نسق الهجمات العسكرية، والتي كان آخرها الهجوم الذي استهدف عرضا عسكريا في مدينة الأهواز في جنوب غرب إيران، في 22 أيلول الماضي وسقط فيه 29 قتيلا و57 جريحا.

يكشف الدرس الإيراني عن مفارقة لافتة تستدعي التأمل في أهمية العامل الداخلي في تحقيق الاستقرار والازدهار، فلا جدال أن إيران كانت الفائز الأكبر من سياسة »الحرب على الإرهاب»، من خلال القتال ضد “داعش”، أكثر من أي دولة أخرى تقاتل»داعش»،حيث تفوقت مكاسبها على مكاسب القوى العظمى مثل الولايات المتحدة وروسيا؛ فقد كانت الآلاف من الميليشيات الموالية لإيران، سواء المنضوية في وحدات الحشد الشعبي في العراق، أو ميليشيات شيعية مختلفة في سوريا، هي من وفرت جنود المشاة، وتلك القوات شبه العسكرية التي تنسق أنشطتها مع قيادة الحرس الثوري الإيراني، وهذه القوات هي من ستبقى على الأرض، وسوف تمدّ نفوذ الدولة الإيرانية في جميع أنحاء الشرق الأوسط، وللمفارقة بدلا من الاحتفالات الشعبية بالانتصارات الخارجية، اندلعت سلسلة واسعة من الاحتجاجات الشعبية الداخلية التي تحمل مطالب اجتماعية في 28 ديسمبر 2017 في مدينة مشهد الواقعة شمال شرقي البلاد، وامتدت لاحقا إلى العاصمة طهران ومحافظات أخرى.

المفارقة وليس المعانقة حكمت حركة الاحتجاجات في إيران، الأمر الذي يعكس تناقضات عميقة بين فهم النخب الحاكمة والجمهور لأولويات السياسة ومنظورات الأمن القومي، إذ لا يمكن تبرير السياسات الداخلية الكارثية الفاشلة بانجازات خارجية مهما بدت نبيلة وناجحة، ولا يمكن مقايضة الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية برهاب «الإرهاب»، ولعبة النفوذ والهيمنة، ففي الوقت الذي انتظرت النخب الحاكمة معانقة الجماهير والاحتفاء بالانتصارات الخارجية، استيقظت النخب الحاكمة على مفارقة مذهلة، فالاحتجاجات على ارتفاع أسعار السلع الأساسية وسوء المعيشة والفساد سرعان ما تحولت إلى صيغة سياسية تندد بالانتصارات الخارجية وبرز شعار “لا غزة، ولا لبنان، أعطي حياتي لإيران”، وانتهى الاحتجاج بعد فرض إجراءات بوليسيّة قمعيّة على المحتجّين ووسائل التواصل الاجتماعيّ، مخلّفاً 25 قتيلاً و3700 معتقَل.
قد يجادل المسؤولون الأميركيون وغيرهم بأن معظم المشاكل الاقتصادية التي تعاني منها إيران نابعة عن تجدد العقوبات الأميركية بعد الانسحاب من الاتفاق النووي، وهم محقّون إلى حد كبير حسب پاتريك كلاوسون، لكن هذه ليست الشكوى المركزية التي تتردد أصداؤها في طهران، ففي كلمة ألقاها خامنئي في 16 آب الماضي، تحدّث المرشد الأعلى علي خامنئي باستفاضة عن الموضوع، وخلص إلى أنه “على الرغم من أن العقوبات قد لعبت دوراً ما، إلّا أنه يمكن إعادة المصدر الرئيسي للمشاكل الاقتصادية الراهنة إلى سوء الإدارة والإجراءات المتخذة على المستوى الداخلي”، فإحدى الحجج الرئيسية التي وردت في خطاب خامنئي هي صحيحة بالفعل، حيث قال إن «الخبراء الاقتصاديين والعديد من المسؤولين يُجمعون على أن المشاكل المعيشية اليوم ليست ناجمة عن العقوبات الأجنبية، بل تعود إلى مشاكلنا الداخلية». ويكاد المعلّقون المحليون يتوافقون بالإجماع حول هذه النقطة رغم أنها تقلل من التأثير الذي أحدثته العقوبات.

ثمة اتفاق بين الخبراء والباحثين على أن الحركة الاحتجاجية والهجمات العسكرية في إيران تختلف عن سابقتها، إذ يقودها أناس عاديون تجاوزا الانقسام التقليدي بين المتشددين والإصلاحيين، فما جرى يختلف عما حدث في تموز 1999، من احتجاج الطلبة السلمي من أجل حرية التعبير، ولا يدخل في إطار الانقسام الذي تجلى مع بروز «الثورة الخضراء» عقب معارضة إعادة انتخاب الرئيس الإيراني الأسبق محمود أحمدي نجاد في يونيو 2009، والذي توج باعتقال المعارضين البارزين في المعسكر الإصلاحي مير حسين موسوي ومهدي كروبي وهما لا يزالا قيد الإقامة الجبرية، وقد تم قمع الاحتجاجات وألقي القبض على العديد من النشطاء، فبحسب حميد دياشي كانت هذه الاحتجاجات «تدار من أجندة إيرانية»، كحركة تصحيحية داخل الاطار الثوري الإسلامي الإيراني، فاهتمام “الحركة الخضراء” يقع في إطار ما بعد الإسلام السياسي حسب آصف بيات الذي ينشد تحقيق المزيد من الحريات، وتوسيع حقوق الإنسان، وتحقيق الشفافية، وتحديد سلطة المرشد الأعلى، في إطار التمييز بين الديني والسياسي.

في محاولة الإجابة على أولوية السياسات يتساءل آصف بيات، كيف لنا أن نفسّر هذه الانتفاضة؟، ويقدم تفسيرين رئيسين؛ يصوِّر الأوّل الاحتجاج بكونه تمهيداً لثورة. بينما يفهمه الثّاني بكونه مثالاً عن الكيفيّة التي يُعْرب بها الإيرانيّون عن مشاغلهم العامّة عادةً. لكنّ الواقع يبدو مختلفاً على أيّة حال. فما ارتشح في إيران أخيراً ليس مجرّد امتداد لاحتجاجات روتينيّة، أو تمهيداً لثورة، بل هو احتجاج شعبيّ استثنائيّ. ففي قلب الاحتجاج نجد «فقراء الطبقة الوسطى» وهي الطبقة الغاضبة الناشئة التي ولّدها عصر نيولبراليّ تُرك فيه رفاهُ الشعب لرحمة السوق. مع انفتاح اقتصاد إيران، استفادتْ هذه الطبقة من الفرص التعليميّة، ولكنّها لاقت إخفاقاً في سوق العمل، كان سقف توقّعاتها عالياً، ولكن كان مستوى معيشتها أقلّ استقراراً. ومع وجود ميلٍ متمايزٍ عن ميل كلٍّ من الطبقة الوسطى والطبقة الفقيرة، كانت هذه الطبقة المتململة مُهيّأةً لإقلاق راحة السلطات اللامبالية.

المسألة الداخلية في التجربة الإيرانية تتمتع بأهمية استثنائية كونها تتزامن مع نجاح على الصعيد الخارجي، ولذلك فالحركة الاحتجاجية للشارع الإيراني على تبايُنها، هي التي تواجه السلطات بمعدّل يوميّ، أكثر حتى ممّا كان يفعله العمّال النقابيّون، فمنذ مارس 2016، أُعلن عن خروج ما يقارب 1700 احتجاج شعبيّ، بحسب جمعيّة مُؤثِري الثورة الإسلاميّة، وهي احتجاجات متنوعة قد يتوجه بعضها إلى مزيد من الردكلة في ظل تصاعد المشاكل الإثنية وارتفاع سقف مطالب الأفليات العربية الأهوازية والكردية والأذرية والبلوشية وغيرها، وتوجهها نحو تأسيس مزيد من هياكل المعارضة العسكرية والسياسية، حيث تتميز الاحتجاجات الحالية بطابع مختلف، فهي حسب صحيفة «ميديابارت» الفرنسية مواجهة بين المستبعدين من الاستفادة من النظام الحالي والمستفيدين منه، بين الفقراء المحرومين ومن امتلأت جيوبهم من أموال النفط، بين ضحايا الفساد الواسع ومن هم في واقع أمرهم أدواته. والواقع أن شخصيات معسكر الإصلاح إما التزمت الصمت منذ بداية الاحتجاجات أو نددت بها، ولهذا، فإن ما يبرز اليوم هو ما يمكن أن يعتبر قوة ثالثة على المسرح الإيراني، قوة غير منظمة وبدون قيادة.

خلاصة القول أن التجربة الإيرانية تقدم درسا بالغ الأهمية للعالم العربي حول الأسباب العميقة للمشاكل والأزمات، وتكشف أهمية العامل المحلي وأولويته الحيوية، إذ لم يعد ممكنا التهرب من سوء الإدارة والفساد في أي بلد كان تحت ذريعة تحقيق الأمن ومحاربة الإرهاب، ذلك أن جذر الإرهاب يتغذى على البؤس والفساد وسوء الإدارة بصورة رئيسبة، ويجب التخلي عن استخدام ذريعة «حرب الإرهاب» كسيف مسلط على رقاب الفقراء والمهمشين والمحرومين، إذ تعطي إيران درسا مهما للمنطقة بأن المكاسب السياسية الخارجية بالتمدد تغدو هامشية وغير مجدية مع تنامي المشاكل والأزمات الداخلية.
صحيفة الراي

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock