بأي معنى يمكن أن نتحدث عن “الإنقلاب” في تونس ؟
عادل بن عبد الله
قد لا تكون كلمة “انقلاب” من أكثر الكلمات الدائرة على ألسنة النخب التونسية بعد الثورة، ولكنها كانت من المفردات الرئيسة في السجال العام منذ هروب المخلوع إلى السعودية يوم 14 كانون الثاني/ يناير 2011. فرغم حصول شبه إجماع على وصف ما حصل بين 17 كانون الأول/ ديسمبر 2010 و14 كانون الثاني/ يناير 2011 بـ”الثورة”، فقد وُجدت بعض الأصوات التي كان خطابها يترواح بين التشكيك في حصول ثورة، واعتبار ما حصل “إنقلابا على الشرعية الإنتخابية” أو “مؤامرة” أو “ربيعا عبريا”. وقد كان أغلب هؤلاء من المنتمين إلى النظام القديم أساسا أو من هوامشه وملحقاته الوظيفية، حتى وإن ادعوا المعارضة وزايدوا على البقية في “الوطنية”. أما بعض الأصوات الأخرى، فإنها لم تشك في حصول ثورة، ولكنها اعتبرتها ثورة “مجهضة” انقلبت عليها النخب بعد هروب المخلوع وتبنيها لمنطق “إستمرارية الدولة” و”الإستثناء التونسي”، وهو ما كان يعني موضوعيا هيمنة ورثة التجمع أو حلفائه على المسار الانتقالي، بدءا بحكومتي محمد الغنوشي وانتهاء بحكومة الباجي قائد السبسي.
وبصرف النظر عن هذا الالتقاء الموضوعي بين النقيضين (أي بين ورثة المخلوع والثوريين) على التشكيك في الثورة رغم اختلاف الأسباب، من المؤكد أنّ من يعتبرون ما حصل يوم 14 كانون الثاني/ يناير 2011 “انقلابا” كانوا ينظرون إلى انقلاب المخلوع على بورقيبة يوم 7 تشرين الثاني/ نوفمبر 1987 باعتباره حركة إنقاذ” أو “حركة تصحيحية”، ومن المؤكد أيضا أن هؤلاء “البورقيبيين الجدد” (الذين التفّوا أساسا حول نداء تونس بقيادة السيد الباجي قائد السبسي) لم ينبسوا (هم ولا مؤسس النداء) ببنت شفة دفاعا عن “زعيمهم” عندما أهانه المخلوع وأذاقه الأمرّين في أرذل العمر.
إذا حاولنا استقراء الخطابات “الانقلابية” بعد الانتخابات التشريعية والرئاسية سنة 2014، فإننا سنجدها تنقسم إلى قسمين كبيرين هما:
• قسم أول يدعون صراحة إلى الانقلاب على مسار الانتقال الديمقراطي برمته وإلى إصدار “البيان رقم 1” من طرف المؤسسة العسكرية. وهؤلاء يعللون انقلابيتهم بفساد الطبقة السياسية وبطبيعة الأزمة الخانقة التي تمر بها البلاد سياسيا واقتصاديا وأمنيا. فهم دعاة “انقلاب عسكري” صريح، ولذلك لا نستغرب مباركتهم لانقلاب العسكر في مصر، بل دعواتهم المتكررة (صراحة أو ضمنيا) إلى “تَونسته”. ولا تعني “التونسة” عند هؤلاء في المستوى السياسي إلا إخراج النهضويين من الحكم، وإرجاع منظومة الحكم إلى حاضنتها التقليدية، أي إلى المركّب الأمني- الجهوي- المالي الحاكم في تونس منذ الاستقلال الصوري عن فرنسا. ولعل ما صرّح به أخيرا النائب السابق في المجلس التأسيسي وزعيم حزب “الخيار الثالث”، صالح شعيب، أفضل مثال على هذا الوعي “الانقلابي” الذي لا يجد حرجا في التعبير عن انقلابيته، رغم أنه جزء من المجتمع السياسي القانوني (بفضل الثورة).
• قسم ثان يحذّرون من الانقلاب الناعم الذي يسعى إليه رئيس الوزراء يوسف الشاهد. وهؤلاء أغلبهم من المنتمين إلى شق الرئيس وابنه المدير التنفيذي لنداء تونس. واللافت في خطابات هؤلاء هو أنهم ما زالوا يتحركون بعقلية الحكم الرئاسي، بل الرئاسوي الذي قطعت معه الثورة بتأسيسها للنظام البرلماني المعدّل. ولذلك فإنهم يتعاملون مع السيد يوسف الشاهد بمنطق الوزير الأول، كما كان الأمر في عهد المخلوع، لا بمنطق رئيس الوزراء كما يقتضي الدستور. إننا أمام وعي “لا وظيفي” من منظور فصل السلطات، وأمام وعي “رئاسوي” من جهة الإصرار على مركزة السلطة بين يدي رئيس الجمهورية خلافا للدستور. ولعل من أشهر من يعبّر عن هذا “الوعي الشقي” هو المؤرخ خالد عبيد في مجمل مقالاته وتدخلاته الإعلامية. فهذا المؤرخ لا يشغله الانقلاب على استحقاقات الثورة زمن السيد باجي قائد السبسي، وتمرير قانون المصالحة الذي انقلب على مبدأ تساوي المواطنين أمام القانون، ولا يأبه لانقلاب رئيس الدولة على صلاحيات رئيس الحكومة وعلى صلاحيات مجلس النواب (بوثيقة قرطاج)، كما لا يعنيه سيناريو “التوريث” الذي ينقلب على الديمقراطية داخل حركة نداء تونس ذاتها، فكل ما يعنيه هو الدفاع عن المسار الانقلابي الأصلي المتمثل في تغول مؤسسة الرئاسة بل عودتها إلى المنطق “العائلي” و”الجهوي” و”الزبوني” الذي طبع حكم المخلوع. وبالطبع، فإن كل الحجج “الأخلاقوية” (التمرد على الأب الروحي ونكران الجميل) والحجج” الأيديولوجية (خدمة النهضة وتهديد “الديمقراطية”) والحجج “الخطابية” (المقايسة بين انقلاب المخلوع على بورقيبة وإمكانية انقلاب يوسف الشاهد على قائد السبسي، بل حتى على النهضة ذاتها في مرحلة لاحقة)، كلها تصبح حججا “معقولة” بصرف النظر عن تهافتها المنطقي أو استحالتها الواقعية.
لو سلّمنا جدلا (أو اعتباطا) بالنوازع الانقلابية لرئيس الحكومة السيد يوسف الشاهد، فإن جملة من الأسئلة ستُطرح هنا، ومنها الأسئلة التالية:
1. هل توجد إرادة دولية وإقليمية إلى تَونسة السيناريو المصري، وما هي مصلحة تلك القوى في هذه العملية في ظل الأزمة البنيوية التي تعيشها تونس، والتي تجعل منها مثالا هشا وعاجزا عن تصدير نفسه، بل عاجزا عن الاستمرار إلا في ظل تواصل الهيمنة الأجنبية على قراره السيادي وعلى ثرواته الطبيعية، هذا دون اعتبار حاجة القوى الدولية إلى الاستقرار الهش في تونس لتكون بوابتها في خدمة استراتيجياتها المشبوهة تجاه ليبيا والجزائر؟
2. بصرف النظر عن قدرة يوسف الشاهد على القيام بالانقلاب أو عدم امتلاكه لتلك القدرة، فهل هو محتاج إلى الانقلاب على مسار الانتقال الديمقراطي لتثبيت سلطته، وليضمن تأييد القوى الدولية له في الاستحقاقات الانتخابية القادمة، وهو الذي لم يرفض طلبا للجهات المانحة من جهة أولى، وهو القائم -من جهة ثانية- على حماية مصالح الوكلاء المحليين لتلك الجهات المانحة، خاصة مصالح أولئك الذين يُشكلون النواة الصلبة للحكم في المُركّب الجهوي- الأمني- المالي الحاكم الفعلي لتونس قبل الثورة وبعدها؟
3. ما هو الخطر “الوجودي” الذي تُمثله حركة النهضة على منظومة الحكم وعلى توجهاتها الكبرى الموروثة من عهد المخلوع، ولماذا سيخاطر يوسف الشاهد أو غيره بحرب أهلية (أو على الأقل بتأزيم الوضع الاجتماعي) وهو القادر على تمرير سياساته (وإملاءات لجهات المانحة) بدعم من النهضة ومن غيرها من الفاعلين الكبار (بمن فيهم الاتحاد العام التونسي للشغل رغم كل مزايداته، ورغم تمترسه حاليا خلف ابن الرئيس، أي تمترسه خلف جزء من منظومة الحكم لا خارجها كما ينبغي أن يكون موقعه “الطبيعي” بعد الثورة)؟
4. هل يمكننا اعتبار وجود يوسف الشاهد نفسه في قصر القصبة أمرا مفصولا عن استراتيجيات انقلابية سابقة؛ بدأت بتأسيس حركة نداء تونس واعتبار ورثة التجمع المنحلّ جزءا من “العائلة الديمقراطية”، مرورا بالانتخاب المفيد والتوافق. أي هل إن ما يقوم به يوسف الشاهد من تمرد على رئيس الجمهورية وعلى حزبه هو “انقلاب جديد”؟ أم هو صراع أجنحة داخل المنظومة الانقلابية ذاتها، ومهما كانت نتيجة الصراع، فلن يكون المنتصر إلا خادما لتلك المنظومة ومدينا لها بالوصول إلى السلطة وبالبقاء فيها؟
5. هل ما يقوم به يوسف الشاهد من تمرد على سلطة رئيس الجمهورية (وهي سلطة معنوية غير دستورية) انقلاب على الدستور أم إعادة رسم للحدود “الدستورية” بين القصبة وقرطاج؟ أي ألا يمكننا اعتبار تمرد رئيس الوزراء على منصب “الوزير الأول” خطوة تقدمية تمنع الارتكاس إلى النظام الرئاسوي، وقد تؤسس لفصل حقيقي بين السلطات إذا ما استعاد مجلس النواب زمام المبادرة من رئاسة الجمهورية؟
ختاما، فإنه مهما كانت الاختلافات بين دعاة الانقلاب العسكري والمحذرين من الانقلاب الديمقراطي (أو المتخوفين “خطابيا” من الانقلاب على الديمقراطية)، فإن الفريقين معا يشتركان في الموقف السلبي من الثورة التونسية، ولكنهما يُعبّران عن تلك العلاقة السلبية باستراتيجيات مختلفة. ولذلك، فإنهما لا يؤمنان بمبدأ “التعديل الذاتي” لمسار الانتقال الديمقراطي. ولكنّ الفرق الجوهري بينهما هو أنّ دُعاة الانقلاب العسكري يؤمنون بأن الدبابة هي أقصر السبل لإعادة التوازن للمنظومة القديمة، بعيدا عن الديمقراطية وعن صناديق الاقتراع، وبعيدا عن الوافدين الجدد للمشاركة في إدارة الشأن العام وفي تقاسم الرساميل المادية والرمزية (أي النهضويين خصوصا)، بينما يؤمن المُحذّرون من انقلاب السيد يوسف الشاهد (بمباركة النهضة) على رئيس الجمهورية بأن أفضل طريقة لإعادة التوازن للمنظومة السابقة هي دعم مؤسسة الرئاسة ومركزة السلطة فيها بتهميش منصب رئيس الوزراء والسلطة التشريعية معا. إننا أمام استرتيجيتين انقلابيتين؛ نذهب إلى أن أخطرهما على المسار الانتقالي هي الاستراتيجية الثانية. فبحكم وجود إجماع كبير بين التونسيين على رفض الانقلاب العسكري، وبحكم وطنية المؤسسة العسكرية وحياديتها في الصراع السياسي، فإن الخطر الأعظم على الديمقراطية يأتي من أنصار النظام الرئاسي ومن أنصار التوريث، سواء أكان التوريث في العائلة أم في الجهة، أم كان في إطار “العائلة الديمقراطية” وأساطيرها المؤسسة “للنمط المجتمعي التونسي”.
“عربي21”