تدوينات تونسية

مَزْبلَةُ حَيّنا الشعبيّ

بشير العبيدي
#رقصة_اليراع
منذ ستّين سنة، ومع خروج آخر جندي من جنود الاحتلال البغيض، سكنّا في حيّنا الشّعبي المتواضع، بعد أن تكرّمت علينا حكومة الاستقلال ببعض المرافق الضروريّة، مثل مركز الشّرطة، ودار الحزب الحاكم، وقاعة سينما ودار الافراح، ومسجد جامع. أمّا التّعليم، فقد واصلنا المشوار في المدرسة التي بناها الاحتلال وتركها بعد مغادرته، وكانت هبة لفائدة الشعب، كما قيل لنا.
ومما كان لافتا للنّظر، أنه لم يكن في حيّنا الشّعبي المتواضع مرافق لتدوير أو إتلاف أو طمر النّفايات والمزابل. فأمر مسؤول حيّنا الشّعبيّ أن يتمّ تكديس كل الفضلات في مكان واحدٍ قريبٍ، في متناول السّاكنة. فكان كلّ من أراد التخلّص من الأوساخ والسّقط، رمى بها في ذلك المكان وانصرف إلى بيته، حتى تخمّرت الفضلات ولوّث نتنُها الماءَ والتّرابَ والهواءَ، وتضايقَ النّاسُ وضجروا.

فلمّا رأى شبابُ حيّنا ما آلتْ إليه الأمورُ، وما يهدّدُ الحياةَ من فسادِ المزابلِ، اجتمعوا وتناقشوا واتّفقوا على المبادرةِ بنقلِ تلك الكومة من الأوساخ بعيدًا من أجلِ إتلافِ ما يتلفُ وإحراقِ ما يحرقُ وتدويرِ ما يُدوَّرُ. ولكن الشّباب، لقلة الخبرة، ما وضعوا خطّة ثانية وثالثة لتلافي فشل الخطّة الأولي، ولم يختاروا من بينهم من يقودهم. بل باشروا بكلّ حيويّة واجتهادٍ وبراءة أعمالَ التنظيفِ، آمنين بفكرة كونهم يعملون الخير لفائدة الجميع، وأن الجميع لن يعارضوا عملهم الخيري. فلمّا حرّكوا الأوساخَ المكدّسةَ، ازدادتْ نتانةُ الرّائحةِ الكريهةِ المنبعثةِ من تلك المزبلة، وانكشفَ ما كان خافيًا عن الأبصارِ والبصائرِ، وضجَّ النّاسُ وتهارشوا واختلفوا اختلافًا شديدًا.
عندها، خرجَ كبارُ حيّنا عن صمتهمْ، وقرّروا بمفردهمْ أنْ يتمَّ ترك المزبلةِ على حالها، ومنعوا الشّبابَ من إتمامِ ما بدأوا فيه، وأمروا بالإبقاءِ على الوضعِ السّابقِ حفاظاً على المصلحة العامّةِ، واستتبابِ الأمنِ، وساندهم في ذلك إمام مسجد حيّنا الشّعبيّ الذي أفتى بأن الدّين يقتضي أن تبقى المزبلة حيث كانت، لأن دفع المضرّة مقدّم على جلب المنفعة.
ثمّ تفرّق الشّباب كلّ في سبيل حالهِ، فمنهمْ من انغمسَ في الملذّاتِ والشهوات، ومنهم من انعزلَ بعيدا في الرّوحانياتِ، ومنهم من غضبَ وحمل السّلاحَ ولاذَ بالجبال الشاهقاتِ، ومنهم من تركَ حيّنا وركبَ البحرَ في اتجاه بلاد الشّقراوات. ولمّا رأت البلادُ الأجنبية ُما حلّ بحيّنا الشّعبيّ الوديع، تدخّلت لكي تساعد كبار حيّنا على أن يستتبَّ الأمنُ مجدّدًا، مثلما كان الأمر خلال ستين سنة، ودفعت المالَ والسلاحَ لكي تنصرَ بعضَ الشّبابِ على البعضِ الآخر، ترنو بذلك لفناء جميع شباب حيّنا.
فكثر اللّغط ُ في حيّنا الشّعبيّ، وكبرت حكايةُ المؤامرة الكونيّة واقتنع بها أغلب سكّان الحيّ، وانتشرت حياكةُ التفاسير الغيبيّة، ونسي النّاس قصّة المزبلة جملةً وتفصيلاً، وما عاد أهلُ حيّنا يهمّهم أن يشمّوا النّتن المنبعث من مزبلة حيّنا. لأنّ كلفة تحريك المزبلة من مكانها، صارت في أعين كبارنا أعظم من كلفة بقائها وتحمّل أذاها.
عاشت حكمة كبار الحيّ الشّعبيّ.
من كتاب : خواطر الأنفاق وبشائر الأفاق، دار اليراعة للنشر، باريس.
محرم 1440
كَلِمةٌ تَدْفَعُ ألَمًا وكَلِمةٌ تَصْنَعُ أمَلًا

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock