من “مأسسة الثورة” إلى “استمرارية الدولة”
عادل بن عبد الله
تصدير: “العقد القادم هو عقد التونسي… تَونسة العرب”
(الدكتور عزمي بشارة، الثورة التونسية المجيدة، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ط 1، كانو الثاني/ يناير 2012)
بحكم خلفيته الديمقراطية الصلبة وبحكم علمانيته المبدئية، كان موقف الدكتور عزمي بشارة الوارد في التصدير موقفا متقدما على مواقف غالبية النخب العلمانية التونسية ذاتها، بما فيها تلك النخب السياسية التي أخرجتها الثورة التونسية من وضعية “التابع” إلى وضعية “الزعامة” لتقود المرحلة “الانتقالية” والمرحلة التأسيسية. فـ”تونسة العرب” أو “تصدير الثورة التونسية” لم يكونا من المفكر فيه، بل إن السيد باجي قائد السبسي قد أعلنها بلا لبس، خلال رئاسته للحكومة المؤقتة سنة 2011، عندما قال إن الثورة التونسية ليست للتصدير.
بصرف النظر عن المآلات الواقعية للثورات العربية (أو لنقل بصرف النظر عن الإخفاقات أو النجاحات المتفاوتة لـ”تونسة العرب)، فإنّ النخب التونسية كلها لم تطرح على نفسها هذه المهمة، وذلك لأسباب أيديولوجية وواقعية ليس هذا مجال بسطها. ولكن المؤكد أنّ من أهم أسباب هذا الخيار هو أن النخبة السياسية التي أدارت المرحلة الانتقالية بقيادة السيد باجي قائد السبسي؛ لم تكن، من جهة أولى، مرتبطة واقعيا أو حتى وجدانيا بالثورة التونسية، بل كان أغلبها مرتبطا بدرجات متفاوتة بالنظام السابق، فكان وجودها ذاته في موقع القرار إشكالا يعيق وصف ما وقع بعد 14 كانون الثاني/ يناير 2011 بأنه “مأسسة للثورة”، فما بلك بإمكانية التفكير في “تصديرها”. ومن جهة ثانية، كان “الاستثناء التونسي” يواجه مشكلة بنيوية تتمثل في المقاومة التي كان يلقاها من لدن النخب ذاتها، خاصة منها النخب العلمانية التي كانت ترفض الاعتراف بدخول الإسلاميين (خاصة النهضويين منهم) مُكوّنا ثابتا وكامل الحقوق في الحقل السياسي ما بعد الاستبدادي.
لا شك في أن المسارات الارتكاسية للثورات العربية قد دفعت بالدكتور عزمي بشارة إلى التخفيف من “تفاؤله” بشأن “تونسة العرب”، أي بإمكان تصدير مبادئ الثورة التونسية وقيمها، ولكنّ ما يعنينا في هذا المقال ليس هو محاورة الدكتور بشارة في هذه القضية، بل إن ما يعنينا هو بالتحديد الإجابة على السؤال التالي الذي هو ألصق بالواقع التونسي: بأي معنى يمكننا فهم “الاستثناء التونسي” بعد أن نجحت المنظومة السابقة في تحويل استحقاق “مأسسة الثورة” إلى استحقاق “استمرارية الدولة”؟
لم يكن نجاح المنظومة القديمة في العودة إلى مركز السلطة رميةً من غير رام، بل كان نتيجة منطقية لمسار كامل لم يكن حتميا، ولكنه كان “مرجّحا” منذ 14 كانون الثاني/ يناير 2011. وكانت سردية “الاستثناء التونسي” مدخلا جيدا للنواة الصلبة للمنظومة القديمة كي تجد لها (في البداية عبر وكلاء من اليسار الثقافي أساسا وفي النهاية بصورة مباشرة) موقع قدم داخل حقل سياسي كان يُفترض فيه أن يشتغل ضدها لا معها أو تحت رعايتها. وكان وجود السيد الباجي قائد السبسي على رأس السلطة التنفيذية ووجود عياض بن عاشور على رأس “الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة”؛ دليلا على أن المنظومة القديمة قد نجحت في اختراق “المسار الثوري”، وأنها ستدير استحقاقاته انطلاقا من مصالح المركّب الجهوي-الأمني-المالي الذي تنتمي إليه الشخصيتان المذكورتان أعلاه.
ومثلما احتاجت المنظومة إلى مقولة “الاستثناء التونسي” لتدير المسار الانتقالي بصورة تضمن عودة الوجوه والمصالح القديمة (انطلاقا من رفض العزل السياسي للتجمعيين، ثم انطلاقا من دمج ورثة التجمع ضمن ما يُسمّى بـ”العائلة الديمقراطية” دفاعا عن “النمط المجتمعي التونسي” المهدد من “الإسلاميين”)، فإنها قد احتاجت إلى فرض السردية البورقيبية باعتبارها “الخطاب الكبير”، ذلك الخطاب الذي يضمن “الاستمرارية”، أي استمرارية المصالح المادية والرمزية للنخب الحاكمة قبل الثورة تحت حكم “الدولة الزبونية”، كما يضمن استمراية البنية الجهوية للسلطة التي ستحكم البلاد بعد 2014 انطلاقا من “وحدة جهوية” (بين السواحلية والبلدية) تم الترويج لها منذ الاستقلال الصوري عن فرنسا؛ على أساس أنها “وحدة وطنية”.
قد أكون مخطئا، ولكنني لا أذكر أنّ أحد المنتمين للنخب العلمانية التونسية طرح على نفسه الأسئلة التالية، وحاول الإجابة عنها بعيدا عن إغراء “الأسئلة البلاغية” وطمأنينتها الكاذبة: لماذا قبل أصحاب السرديات الكبرى (يمينا ويسارا) أن تدير المرحلة الانتقالية شخصيتان تنتميان إلى التركيبة الجهوية نفسها للسلطة الدستورية-التجمعية، أي للنواة الصلبة لمنظومة الحكم منذ الاستقلال الصوري عن فرنسا؟ ولماذا سكت أصحاب “الطوباويات” عن السيد الباجي قائد السبسي عندما أعلن صراحة أن الثورة التونسية ليست للتصدير؟ ولماذا لم يختر السيد الباجي قائد السبسي بعد وصوله لقرطاج شخصية من الدواخل لرئاسة الوزراء، واختار السّيدين الحبيب الصيد ويوسف الشاهد المنتميَين إلى جناحي السلطة الأساسيين منذ عهد المرحوم بورقيبة؟ ولماذا دفعت النهضة (زمن الترويكا) بالسيد حمادي الجبالي إلى رئاسة الوزراء ثم دفعت (زمن التوافق) بالسيد زياد العذاري إلى الأمانة العامة للحركة؟ وهل من “المصادفة” أن ينحصر الصراع على السلطة، بعد سبع سنوات من الثورة التونسية، بين “البلدي” يوسف الشاهد، و”البلدي” حافظ قائد السبسي، بينما يتمترس أصحاب السرديات الكبرى، ومعهم الاتحاد العام التونسي للشغل، خلف أحدهما دون أن يطرحوا أي بديل، وكيف يمكن أن نفسر “الهدنة” (إن لم نقل التواطؤ) بين رموز “استمرارية الدولة” وبين أبرز وجوه الثورة المضادة (أو الدولة العميقة) بقيادة تلك الشخصية المعروفة والغنية عن التعريف من جهة منحدرها الجهوي وشبكة علاقاتها المحلية والدولية “المشبوهة”؟
لا شك عندنا في أن تفكيك البنية الجهوية والزبونية للسلطة سيلقى مقاومة كبرى بدعوى “الوحدة الوطنية” ورفض “النزعات الجهوية”. ولا شك عندنا أيضا في أن هذه الاعتراضات تُخفي شبكة معقّدة من المصالح المادية والرمزية التي تحول دون الانتقال من منطق الجمهورية الأولى (جمهورية المواطنة المشروطة والناقصة) إلى الجمهورية الثانية (جمهورية المواطنة الاجتماعية). ونحن على يقين من أن هذه البنية الجهوية المتحكمة في دواليب الدولة قد تخلخلت جزئيا، ولكنها ما زالت رغم ذلك من أهم الفاعلين في الواقع التونسي.
كما نعتقد أن الصراع الدائر حاليا بين يوسف الشاهد من جهة، والباجي قائد السبسي وابنه من جهة أخرى؛ هو لحظة من لحظات الاختلال الوظيفي داخل منظومة الحكم. وهو اختلال يبدو أن المنظومة ستُضطر قريبا إلى تجاوزه بالحسم في “خيارها” أو حصانها الرابح في الاستحقاقات الانتخابية القادمة سنة 2019. وسواء أكان يوسف الشاهد هو خيار المنظومة في هذه المرحلة الانتقالية بدلا من زعامة السيد الباجي قائد السبسي، وصولا إلى تحجيم دوره ودور ابنه تمهيدا للتخلص منهما سنة 2019، أم كان يوسف الشاهد هو رجل المرحلة القادمة و”زعيمها” الجديد، بحزب جديد يرث نداء تونس ويواصل دوره باعتباره قاطرة لمصالح المنظومة ذاتها، فمن المؤكد، استنادا إلى استقراء التاريخ وإلى توازنات القوة الحالية، أنّ المنظومة ستُبقي جميع خيارات”الزعامة” داخل جناحي السلطة الأساسيين (البلدية والسواحلية)، مع توسيع قاعدتها الزبونية وتنويعها بطريقة ميتا- أيديولوجية، وهو ما سيضمن بقاء النواة الصلبة للحكم في موضعها الحالي في إطار “توافقات” و”ترضيات” ستشمل النخب المنحدرة من جميع المناطق، ولكنها لن تمس شيئا في منطق الحكم ولا في آلياته ولا في بنيته الجهوية المعروفة.
ختاما، قد يكون من المفيد أن نُوضح أنّ الحديث عن بنية جهوية للسلطة لا يعني عندنا تبني منطقا جهويا مضادا أو شيطنة الجهات”المحظوظة” وساكنتها. فنحن على وعي بأن ضرر “العائلات المتنفذة” و”أصحاب الدماء الزرقاء” يمسّ ساكنة تلك المناطق قبل غيرهم. ولذلك، فإن منتهى ما يعنيه هذا العامل التفسيري هو أن البنية الجهوية للسلطة تمثل عائقا أساسيا (من جملة عوائق أخرى) أمام بناء ثقافة المواطنة ووعي “وطني حقيقي”، لا يكون مجرد مجاز لتضامنات جهوية وفئوية أو أيديولوجية. ولا شك في أن التناقضات الداخلية للمنظومة، واستحالة مركزة السلطة أو شخصنتها في اللحظة الحالية، قد تكون مدخلا لفك هيمنة النواة الصلبة للحكم وهيمنة أساطيرها التأسيسية على المجال العام، ولكنّ تلك التناقضات قد تكون أيضا لحظة اختلال عابرة سنتجح المنظومة في تجاوزها؛ انطلاقا مما أثبتته من قدرة على استثمار تناقضات باقي الفاعلين “المؤدلجين” وتوظيف صراعاتهم الهوياتية القاتلة لإعادة إنتاج نفسها وترسيخ سلطتها في “سياق ثوري” من المفروض فيه أن يعاديَها.
إننا أمام فرضيتين أو أمام ممكنين تاريخيين قد يكون منتهى أحدهما تحقق نبوءة/ استشراف الدكتور عزمي بشارة بـ”تونسة العرب”، ولكن قد يكون أيضا منتهى الفرضية الثانية” تعريب تونس”، بمعنى إرجاعها إلى حاضنتها الاستبدادية المهيمنة على الفضاء العربي برمّته. ولن يكون الفيصل في ترجيح إحدى الفرضيتين إلا ظهور كتلة تاريخية مؤمنة بالثورة التونسية، أو بمأسسة الثورة، بل بإمكانية تصديرها، وهي نخبة سيكون عليها، قبل كل شيء، أن تثبت أن “مأسسة الثورة” لا تشتغل بالضرورة ضد “استمرارية الدولة” في المطلق، بحيث تكون صنوا للفوضى والاحتراب الأهلي، بل تشتغل أساسا ضد استمرارية الدولة الاستبدادية، بحيث تكون فاتحة لدولة المواطنة الاجتماعية القابلة للتصدير بعيدا عن أوهام السرديات الكبرى وبعيدا عن أساطير “النمط المجتمعي التونسي”.
“عربي21”