“نا” حي وولدي يجرى فيه هكا

بلقاسم النعيمي

كان يكره أباه أو هكذا يظن …
فوالده كان يميز بينه وبين أُخته التي تصغره بعام تمييزا كبيرا، كان حبه لها حديث القاصي والداني حتى أنه كان يمشًط شعرها بنفسه خاصة حين كانت تتباكي عندما كانت أمه تقوم بذلك بتعلة أنها أوجعتها. كان يخاف عليها نسمات الهواء الناعمة.
كانت تحظى منه بكل الاهتمام وكانت ترافقه دائما الى المدينة “الفيلاج” بمناسبة أو بدونها في حين كانت مرافقته له قليلة بل مسطرة بجدول محدد عند التحضير للدخول المدرسي وعند كل استلام لبطاقة الأعداد.

حين كان أبوه يرى حنقه وغضبه لتدليل أخته كان يواسيه بجملة لم يدرك كنهها إلا حين رزقه الله بنتا
– ياوليدي انت راك مول الدار اما هي راهي ضيفة
ضيفة “هههه” كان يعقب بينه وبين نفسه متهكما ولكنها ضيفة ثقيلة ثقل مضيفها كم تمنى رحيلهما أو أحدهما حتى يخلو له المكان وياليته ماتمنى…
كان عائدا من مدرسته حين استدار مقابلا لطريق بيتهم الذي كان يتوسط حديقة تأثثها أشجار المشمش والتفاح والسفرجل واللوز والزيتون ويحيط بها سور طبيعي من كروم التين الشوكي، لملم نفسه وعدل هندامه وأفلت صديقاه اللذان كانا يسندانه من باب قسمه إلى مقربة من بيته وكأنه جندي يستعد لدورية تفقد، فقد كان والده امام البيت وقد كان شديد الغضب خاصة عندما يكون بصدد اصلاح دراجته النارية -ساقيه كما كان يحلو له أن يلقبها- وقد كان.
أخذ محفظته من يد ابن عمته وانسل من بين صديقيه وواصل الأمتار التي تفصله عن بيته بصعوبة بالغة ولكنه تحامل على نفسه حتى لا يتفطن والده لحالته فيزيد على ما به فهو يعلم تقديره وتقديسه للمعلمين فكيف سيخبره أن معلمه ومديره نصبوا له حفلة تأديب بل حفلة تعذيب تبول فيها على نفسه وفقد وعيه والمدير يطلب مقابلته على عجل.
ان كان مفعولا به من طرف المعلم والمدير فالأكيد انه أذنب ذنبا كبيرا اهتز له عرش الرحمان.
ما إن وصل قبالته حتى كان والده يضع آخر برغي في مكانه فبادره بصوت مختنق لا يكاد يسمع
– الله يعينك آ “أُبي”
رفع والده رأسه ليجيب وليتثبت في المسلم
– الله ي…
وقطع والده كلامه مندهشا وهو ينظر اليه وكأنه يتعرف على شخص لم يره منذ سنين من شدة اختلال منظره وأردف قائلا وهو يميل رأسه يمنة ويسرة
– آوه على روحي “بايْل” على روحك وانا نقول عندي راجل
كانت كلمات أبيه آخر ما كان ينتظر أن يسمع فصرخ يدافع عن رجولته التي انتهكها هذا القاسي المنتصب أمامه والذي يمعن في اذلاله وتدليل أخته خاصة انه لا يتذكر أنه فعلها على نفسه الا ليلة ختانه من الخوف، صرخ بصوت تخنقه العبرة والبكاء وعين تنفجر دموعا
– لا آ “أُبي” سي فلان (يقصد معلم الفرنسية) وسي فلان (يقصد المدير) “دارو فياً” وقلي… “جيب إبيك”
أختطف والده المحفظة من يديه ورماها في كرم التين الشوكي وهو يُزبِد ويُرعد و يَسُب التعليم الذي سيقتل فلذة كبده وبكل ما في الدنيا من ليونة وحنان جثا على ركبتيه يحضنه ويقبله ويلثمه والدمع يسبقه وهو يقول:
– “نا” حي وولدي يجرى فيه هكا مالا بعد منام عيني
وتابع يسأل كمقوم نطق يعلم وَلَدًا كيفية النطق
– وانت آش عملت… آ كبدي
لم يستطع أن يستوعب تصرفات أبيه وكلماته التي لم يعهدها منه بتلك النبرة الحانية وخاصة احتضانه له ودموعه التي أحس بحرارتها حين لامست خده فأجاب محاولا لجم بكائه وعبرته
– كي نحكيلك تصدقني آ “أُبي”… و…
ولكن والده زاد في عصره بين احضانه وأمعن في تقبيله وهو يقول:
– باش هاز راسي بين اندادي واصحابي موش بيك… (كان طول سنين دراسته وحتى الباكالوريا من الأوائل هذا إن لم يكن الأول)، كي مانصدقكش أنت شكون نصدق… راك خليفتي…
شتت كلمات أبيه الحانية مخيلته الصغيرة وأفكاره السابقة وطفق يسأل نفسه أهذا أنا بالنسبة لأبي؟ أأنا فارس أبي المنتظر؟ أأنا مفخرة أبي بين أقرانه وزملائه؟ أكان الأمر يحتاج مثل حفلة التعذيب تلك التي فقد فيها وعيه وبعضا من كرامته -فقد ظل زملاؤه يعيرونه “بالبوال” حتى غادر مدرسته ناجحا الى المعهد- حتى يعرف قدره ومكانته من أبيه ولم يفق الا على صوت أبيه:
– قول أ بابا هاني نسمع فيك
أخبر والده انه وكما يعلم في سنته الثانية لتعلم اللغة الفرنسية (وقتها كانت الفرنسية تبدأ في السنة الرابعة) وأنه كان بصدد قراءة النص على زملائه كما أمر بذلك سي فلان الذي كان يمر بين الصفوف متهاديا متمايلا وفي بعض الأحيان مغنيا (وكانت تلك طريقته في التدريس)، لم ينتبه أن معلمه وصل بجانبه حين وقعت عيناه على كلمة “accident” في النص والذي يعتير مجرد نطقها صحيحة وقتها نباغة في لغة موليير ولم تكن مرت أمامه قبل ذلك فنطقها -أسيدون- عوض عن -أكسيدون- ولم يكد يفعل حتى إسودت الدنيا في عينه وسمع فرقعة في أذنه اليسرى كالفرقعة اليومية في دواميس جبل الحديد الي يعمل فيها والده وسمع صوتا خفيفا يقول:
– أكسيدون يا بهيم عاود اقرى
لم يفهم مالذي جرى الا بعد حين، فقد صفعه معلمه على حين غفلة بخارج يده اليمنى على أذنه اليسرى فأجاب بصوت ذليل تخنقه العبرة وهو لا يعي أنه يجيب معلمه الذي يخافه ربما أكثر من أبيه حتى انه كان يخاف ان يعترض طريقه فقط.
– مانيش قاري
– بالله يا واطي يا بهيم، أخرج البرة أردف معلمه
خرج من القسم ينتحب وما إن جانب الباب الأيمن للقسم حتى لمح المدير جالسا في وسط الساحة عند نصب الشهداء وظهره اليه فابتلع بكاءه ودمعه ودموعه وعبرته خشية أن يسمعه. طفق يدعو الله أن لا يلتفت ولكن الله لم يستجب لدعوته و التفت المدير على إثر ضجيج صادر من أحد الأقسام ورآه، برقت عيناه كذئب تصيد لتوه فريسة وناداه باسمه بصوت قاس:
– فلان (يقصده) أيجا هنا و واش تعمل البرة
نزرت من عينه دمعة ظلم وأجاب:
– سي فلان ضربني على وذني وخرجني على خاطر غلطت في كلمة “accident”
اجابه بكل غلظة:
– باهي أسكت برك وايجا تو نشوفوه علاش ضربك سي فلان
وصلوا الى القسم وأمره المدير ان يلتحق بمكانه ولا يعلم مالذي قاله معلم الفرنسية الى المدير حتى جعل هيأتهما وكأن بهما مس من الجنون وأمرا زميلته التي تقاسمه المكان ان تبتعد وتحلقا حوله وطفقا يضربانه في كل مكان وبكل شيء محفظة كتاب قدم قبضة يد لم يعلم عدد الركلات ولا اللكمات التي اصابته ولا احس بها فقد عالجه فقدان الوعي مبكرا ربما رحمة من الله واكمل الجلادان يضربان جثة هامدة يتناثر بولها تحت الطاولة وفي انحاء المكان ولم يفق الا على صوت صفارة المدير تعلن انتهاء الحصة الدراسية ومعها انتهاء حصة التعذيب.
لم يعلم من جمع ادباشه ولا من حمل محفظته كل ماكان يذكره هو خيالان لشخصين يسندانه بينهما على الأكتاف وحين وصلا به الى باب القسم انطلق صوت مرعد
– قل لأبيك يجي
رد بصوت خافت لايكاد يسمع
– باهي
فانطلق الصوت المرعدُ المرعبُ من جديد بكل حدة
– سمعتني يابهيم
جمع ما بقي فيه من قوة وأجاب مديره
– حاضر سيدي
ولم يكد يكمل الكلمة لأبيه حتى خنقته العبرة ولم يستطع ان بحبس بكاءه الذي انطلق بدون استئذان.
سمع والده يتمتم وهو يردفه على دراجته النارية بكلمات لم يفهم معناها الا بعد سنين -هذا وعيني حية مالا بعد منامها كيفاش-
التصق بظهر أبيه والدراجة النارية تطوي الأرض طيا وكأنها تلتهمها في نهم، كان سعيدا جدا رغم أن حالته كانت ربما تستوجب الأيواء بالمستشفى فقد كانت من المرات القليلة التي يحس فيها بحب ابيه وكانت أول مرة تترجم في الواقع بكلمات حانية تخرج من أعماق قلب ابيه الذي لم يكن يعيش الا ليرفع رأسه به هكذا قال. آه يا سيدي فلان لو كنت اعلم أن عقابك سيظهر مكانتي الحقيقية ومدى حبه لي لكنت فعلت في قسمي ما فعله الشنفري بقومه.
نتناسى ولكننا أبدا لا ننسى
يتبع…
ملاحظات
1. هذا النص بدون “رتوش” ولا اصلاح مكتوب بلوحة مفاتيح الهاتف الجوال.
2. كل ما ورد في هذا النص من وحي خيال المؤلف.. وأي تشابه في الأحداث أو الشخصيات أو الأسماء هو من قبيل الصدفة لا أكثر.

Exit mobile version