عن معنى إرسال الشباب إلى السجن
كمال الشارني
“رسالة إلى السيد الرئيس” هو العنوان الأصلي لرواية “أحباب الله”، كان في شكل رسالة طويلة بدأت كتابتها في مارس 1986 من السجن المدني بالكاف، أطول من أن يقرأها أي رئيس من تلميذ في السجون التونسية إلى المجاهد الأكبر الذي أقنعتنا دعايته الفرعونية أنه أبونا جميعا، أستحضر اليوم منها هذا المقطع على إثر الإيقافات المتعددة للمدونين: “عندما انغلق عليّ الباب المعدني الثقيل ذي اللّون الأزرق مثل كل أبواب السجون، وجدت نفسي في غرفة شديدة القذارة بلا نافذة، ثلاثة أمتار في متر ونصف دون نافذة مع مصباح قويّ عار ونفّاذ لا ينطفئ ليلا نهارا في سقف عال على عادة السجون.
كتابات على الجدران بألوان داكنة وغامضة، قد تكون دما أو حساء وخربشات على الجدار الأزرق القذر حتى أعلى ما يمكن أن تصل إليه قامة الإنسان حيث يمكن أن نفهم من حجم الخطّ وأسلوبه أنّ بعضها كتب بالأظافر في حالة يأس. أغلب الكتابات هي لأسماء مساجين وتواريخ رميهم في هذا الجحيم السفلي، أسماء نساء وعبارات للعزاء من صنف “الحيّ يروّح”، وأخرى للأم بصفتها الكائن الوحيد الذي يظلّ وفيّا لنا، نحن أشقياء هذا العالم السفلي، “وينك يا لميمة، رانا موضامين”. كم نحن في حالة الضيم يا أمي.
سيّدي الرئيس،
إنّ أبناء الحرام الذين بعثوا بنا إلى هذا الجحيم السفلي لم يجرّبوا كيف يرون العالم من ثقب الإبرة، من خلف الأبواب، من خلال مربّع سماوي في باحة جناح السجن أو تلصّصا من بين النوافذ العالية كي يتعلّموا كيف يشتاقون إلى رحابة هذا العالم وكيف يحبّون الحرّية، يا سيّدي الذي أنزّهه عن الاطّلاع عمّا يجري في سجون وطنه الصغير.
الشوق هو الذي علّمني كيف أستحضر ألوان الحجارة وأشكالها أمام منزل أمي كما لو كانت أمامي: حجران أزرقان بينهما حجر أصفر، كلّها مصقولة بتيّارات وادي ملاق العظيم الأزلي ذي الأسماك النهرية الصفراء ترابية اللّون. ثلاثة أحجار صقلها ماء النهر وضعت فوق بعضها عند الجهة اليمنى من حائط الحوش وقربها قطعة ضخمة من حجر إسمنتي يعود عصر تشييدها إلى الحضور الفرنسي، آه من ألم شوقي ومن الذكريات، آه من حاجتي إليها يا أبي !