العقد البيداغوجي بين الأستاذ والتلميذ
محمد كشكار
هذا ما كنتُ أقوله لتلامذتي في الحصّة الأولى. مواطن العالَم، أستاذ تعليم ثانوي متقاعد منذ ست سنوات
أطرح عليكم هذا الاجتهاد الشخصي حول طُرق التدريس وأعرضه عليكم للنقد، لأن النقد يصقل ويطور الفكرة أما الشكر فيخدّر العقل ويقتل الإبداع.
كنتُ أقول لتلامذتي في الحصة الدراسية الأولى في أول السنة ما يلي:
أهلا وسهلا بكم في قسمكم ومعهدكم وأتمني لكم عاما سعيدا، سوف يُتوج بالنجاح إن شاء الله إن عملنا معية لتحقيق ذالك. بعد التحية، أعرّف بنفسي: أنا أستاذ علوم الحياة والأرض، عيّنوني منذ 36 سنة أستاذا لتدريس هذه المادة ومنحوني -بكل مجانية- “ترخيصا للتدريس مدي الحياة دون قيد أو شرط”، وما زلت أمارس هذه المهنة بكل رغبة ولذة التدريس. آليت علي نفسي أن أحسّن مستواي العلمي والبيداغوجي والتعلمي، لذلك لا زلت حتى الآن أتعلم مثلكم وأتعلم منكم أيضا وأنا علي قاب قوسين أو عامين من التقاعد.
نمرّ الآن إلي المهمّ وهو “العقد البيداغوجي” الذي يربط بيني وبينكم، وهو عقد ضمني غير مكتوب ومسكوت عنه دون قصد من جل مدرسي الابتدائي والثانوي والعالي.
سأحاول شرح هذا العقد حتى تتبين الحقوق من الواجبات:
1. سنبدأ ببعض الحقوق التي كفلها لكم القانون ولا تتمتعون بها فعليا إما لِتقصيرٍ منكم أو بتعسف من غيركم:
• أول حق هو حقكم في الاحترام الكامل من قِبل المدرس والإدارة والعَمَلَة، يعني ممنوع اللمس والضرب والسب والشتم والإقصاء المجاني وتخفيض العدد والتدخل في الشؤون الخاصة والتشهير بالأخطاء.
• ثاني حق هو حقكم في فهم الدرس حتى وإن أدّى الأمر إلي تأخير في البرنامج باستثناء برنامج السيزيام والنوفيام والباكلوريا وذلك لكونها سنوات تُتَوَّجُ في آخر السنة بامتحانات وطنية.
• ثالث حق هو حقكم في نقاش العدد الذي يُسند إليكم ومقارعة الأستاذ الحجة بالحجة لكن بكل أدب ولياقة.
2. ولكم بعض الواجبات أيضًا:
• أول واجب هو احترام المدرس وليس تقديسه، لأنك لو لم تحترم المدرس فلن تتركه يقوم بواجبه ولن تستفيد من علمه، ولو قدّسته فلن تستفيد أيضا لأنك ستصدّق كل ما يقوله وأنت مسلوب الإرادة، والعلم لا يطلب التقديس بل يطالب بالنقد فهو مبني أصلاً علي الخطأ والصواب.
• ثاني واجب هو عدم التأخر الزمني في الحضور وعدم تعطيل سير الدروس والانتباه لكل ما يقوله الأستاذ أو التلاميذ المتدخلون في القسم.
• ثالث واجب هو مراجعة الدروس في المنزل، ليس لأن المدرس كلفك بها فقط، بل لأن المعلومات لا تُفهم ولا تَستقر في الذاكرة إلا بالمراجعة والهضم الشخصي المتأني والقيام بالتمارين، والذكاء غالبًا ما يُكتسب ولا يُورّث.
3. بعد ذكر بعض الحقوق وبعض الواجبات، أعود إلي طريقتي الخاصة في العمل والتعامل مع التلاميذ وهي وليدة تجربة وعلم حيث أقول لهم:
• لن أستعمل قانون العقوبات المدرسية التأديبية مهما فعلتم، حتى وإن وصل الأمر إلي التعرض لي في الشارع، رغم إيماني الراسخ بأن انعدام الانضباط في المعهد قد يمثل صورة من صور إهمال تربية التلميذ. اشطبوا إذن بالأحمر كلمة “عقوبة” -علي الأقل معي أنا- لأنني لست مسؤولا عن زملائي ولا عن الإدارة ولا عن الوزارة. وهذا الموقف من العقوبة ليس طِيبة ولا كرما مني، بل هو موقف علمي مبني علي اطلاع واسع علي تجارب تربوية في مجتمعات أخري. وكلامي هذا لا يعني البتة التشجيع علي التسيّب لهذا سأقترح عليكم بعض الإجراءات، إن وافقتم عليها فستقوم مقام القانون الداخلي بيننا: يُقصَي من القسم كل تلميذ يعطل سير الدرس ولا يستجيب لتحذيرات المدرس المتكررة، وكل مَن يقِل أدبه علي زميله أو علي المدرس. الحكمة من هذا الإجراء هو حماية الأكثرية من أخطاء الأقلية وتجنيب التلاميذ الوضعيات غير الحضارية وغير التربوية، كالمواجهة الكلامية المتشنجة في القسم بين المدرس والتلميذ. بعد خروج التلميذ يهدأ المدرس ويواصل درسه ويهدأ التلميذ خارج القسم. فإذا كان المدرس مخطئا، يدعو التلميذ إلي الرجوع للقسم ويعتذر له أمام الملأ، وإذا كان التلميذ مخطئا يرجع للقسم بعد دقائق ويطلب العفو من المدرس ويواصل التعلّم. يُسند واحد علي عشرين لكل من يُضبط في محاولة أو عملية غش في الامتحان لأنه سيتفوق علي زملائه دون وجه حق وسيأخذ عددا مرتفعا لا يدل على مستواه العلمي الحقيقي، وقد يعلمه الغش، هذا السلوك غير التربوي، الكسل والاعتماد على الحيلة لتحقيق النجاح. ولن أحيله على مجلس التربية لأن لا يُعاقب على جُرم شجعته الظروف المحيطة على ارتكابه بسبب الضغوطات الخارجة عن نطاقه مثل اكتظاظ القسم وطول البرنامج أو عدم ملاءمة هذا الأخير لاهتمامات التلميذ.
• سأقترح عليكم بعض الأدوات المدرسية وأترك لكم حرية اختيار النوعية الغالية منها أو الرخيصة حسب إمكانياتكم المادية إلا الكتاب المدرسي فهو إجباري وضروري وسنستعمله في القسم وفي المنزل للاستفادة من المعلومات والتمارين. تمنيتُ لو كان الكتاب اختياريا أيضا مثل ما هو موجود في البلدان المتقدمة.
• ألاحظ دائما مستوي متواضعًا في اللغة الفرنسية لدي تلاميذ السنة أولى الثانوي بسبب التعريب الكامل في التعليم الأساسي [في تونس يدوم التعليم الأساسي تسع سنوات من الأولى أساسي إلى التاسعة أساسي، يعني مرحلة الابتدائي ومرحلة الإعدادي، يدرس التلاميذ خلاله -باللغة العربية- الرياضيات والفيزياء والتقنية وعلوم الحياة والأرض لذلك ألفتُ انتباهكم إلي أهمية هذه اللغة في تكوين مستقبلكم الدراسي، وليس أدل علي ذالك أنكم في مرحلة الثانوي تدرسون بالفرنسية، الرياضيات والفيزياء والكيمياء والتقنية وعلوم الحياة والأرض والإعلامية، وفي مرحلة الجامعة تدرسون بالفرنسية أيضا الطب والهندسة والطيران وكل الشعب العلمية دون استثناء. لا تتجاهلون إذن اللغة الفرنسية لأن لا يتجاهلكم العلم الحديث. وأحسن طريقة لتحسين مستواكم هو استعمالها في القسم وخارج القسم. لا تغفلوا أيضا عن تعلم اللغة الأنقليزية فهي اللغة العالمية الأولى في العالَم. أما اللغة العربية فهي هُويتكم ولغتكم الأصلية وأوصيكم بها خيرًا لأن اللغة يفرضها رجالها ونساؤها وتقدمُ بلدانها وازدهارُ اقتصادها.
• أرى أن “خطأ التلميذ في القسم” أصبح يُعتبر إيجابيا، لا بل أصبح محركًا للقسم. كان وضع الخطأ سلبيا في المنظومة التربوية القديمة وأصبح اليوم ايجابيا في المنظومة التربوية الجديدة. فكلما أخطأ التلميذ أكثر، استفاد هو وزملاؤه أكثر، ونجح الدرس أكثر.
• أما تقييم الامتحانات فيخضع إلى ضوابط علمية: لديكم ثلاثة فروض كل ثلاثة أشهر، فرض في الأشغال التطبيقية داخل القسم وفرض مراقبة بنصف ساعة يحتوي علي أسئلة مباشرة حول الثلاثة دروس الأخيرة وفرض تأليفي في آخر الثلاثي يتكون من أسئلة تخص الذاكرة والفهم والرسم والملاحظة وخاصة توظيف المعلومات.
• أرى أن من حق التلميذ المطالبة بمقياس الإصلاح (Barème de correction) في بداية الامتحان حتى يستفيد منه أثناء الإجابة وعند الإصلاح.
إمضائي
و”إذا كانت كلماتي لا تبلغُ فهمَك فدعْها إلى فجرٍ آخَرَ” جبران
تاريخ أول نشر على النت: معهد برج السدرية في 27 نوفمبر 2008.