عبد اللطيف علوي
غداة الاغتيال الأوّل (بما أنّنا دولة أصبحت تؤرّخ بالاغتيالات) خرج علينا المغفور له حمّادي الجبالي، ليخبرنا أنّه قرّر -بدافع من ضميره، ودون الرّجوع إلى أيّ كان من غبار هذا الشّعب (التّعبير لبورقيبة رجل الضّمير الأعظم)- أن يحلّ الحكومة ويدعو إلى حكومة تقنوقراط، ستكون لها كلّ العصيّ السّحريّة لإخراج البلاد من أزمتها، حدث ذلك في حركة بهلوانيّة غريبة فاجأت الحلفاء قبل الخصوم، وأربكت المشهد السّياسيّ طيلة أشهر..
وغداة الاغتيال الثّاني، وما تلاه من أعمال البلطجة السّياسيّة لجماعة الرّحيل وخنقتونا والفشل الكلويّ المزمن… خرج علينا “الزّعيم” مصطفى بن جعفر، ليخبرنا أنّه هو أيضا قرّر -بدافع من ضميره، ودون الرّجوع إلى أيّ كان من غبار هذا الشّعب- أن يعطّل عمل المجلس التّأسيسيّ إلى أجل يقرّره هو حسب حالة ضميره…
وغدا، إذا قدّر الله ووقع اغتيال ثالث، أو أيّ مصيبة أخرى، أخشى أن يخرج علينا أحد الفخامات -بما أنّ الفخامات الثّلاثة تقتسم حصريّا مونوبول الضّمير وتستعمله بالتّداول والوفاق- أخشى أن يخرج علينا ويعلن أنّه هو أيضا قرّر -بدافع من ضميره، ودون الرّجوع إلى أيّ كان من غبار هذا الشّعب- أن يحلّ الرّئاسة والدّولة والشّعب، ويجعلنا مقاطعة ملحقة بالجزائر أو فرنسا أو التّشاد، كي يدفع جميع الأطراف إلى التّوافق والجلوس إلى طاولة المفاوضات…
وطبعا، المطلوب منّا كشعب مطيع وديع حسن النّيّة، أن نحسن النّيّة بفراسة قادتنا وحكمتهم وإخلاصهم وقدراتهم الخارقة على ابتداع الحلول الخاصّة الّتي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، كيف لا ؟؟ وهم قد حكّموا فينا ضمائرهم الصّافية الصّادقة ؟
لا أعرف “ايه حكاية الضّمير اللّي ماشيهْ في البلدْ اليومين دُولْ ؟؟” على رأي عادل إمام..
ما هذا الهراء والتّنطّع السّياسيّ ؟ ما هذه القيميّة الذّاتيّة الصّبيانيّة الخارجة عن أيّ منطق أو قانون أو عرف سياسيّ في إدارة الشّأن العامّ ؟؟
هذا الضّمير الّذي يتحدّثون عنه، أقصد الضّمير البشريّ عموما، ليس له وضع دائم مستقرّ كي نتحدّث عنه في المطلق، إنّه دائما يكون على حالة صاحبه: فقد يكون هذا الضّمير مسترخيا، أو متنطّعا، غبيّا، مخاتلاً، عميلا، أفّاقًا، مترهّلاً، ناعسا، صاحيا، جبانًا، موتورًا، متزلّفًا، جاهلاً، وطنيّا، مستوردًا… وقد يكون ضميرًا في حالة سكر، أو عطالة، أو موت سريريّ أو في حالة ضياع، أو حتّى في وضع مخلّ بالآداب.. وأحيانا يكون الضّمير كنيّة صاحبه “مقعْمِزْ”.
والضّمير البشريّ، حاله كحال الضّمير النّحويّ، قد يكون معربا وقد يكون مبنيّا، قد يكون متّصلاً بما نعرف وأحيانا لا نعرف، وقد يكون منفصلا عن الواقع والتّاريخ والمصلحة الحقيقيّة للوطن، وقد يكون مستترا تحرّكه أيادٍ قذرة متآمرة.
وهناك نوع آخر من الضّمير، لمن يعرفه، اسمه ضمير المنّاعي…
يعني أنّه من السّخف والهرطقة، أن تطلب منّا أن نحسن بك الظّنّ لمجرّد أنّك تنطلق من ضميرك (هذا إذا سلّمنا أنّ الكثير من هؤلاء ينطلقون فعلا من ضمائرهم وليس من مؤخّراتهم..).
وحتّى الانطلاق من الضّمائر الصّادقة، لا يوصل بالضّرورة إلى سلامة الاختيار… وكم من مصائب تحلّ بالأفراد أو الجماعات يكون المنطلق فيها حسن النّيّة، وسوء التّقدير…
يجب أن يفهم هؤلاء الرّؤساء، وكلّ من وجد نفسه في منصب يهتمّ بالشّأن العامّ مهما قلّ شأنه أو علاَ..، أنّنا لا نريد بعد اليوم أن تحكّموا فينا ضمائركم !!! نريدكم أن تحكّموا فينا القانون، ولا شيء غير القانون… نريد أن نعيش مواطنين في بلد لا يحكمه آلهة، ولا حتّى أنصاف آلهة..
نريد أن يحكمنا بشر مثلنا، خطّاؤون، مُعرّضون مثلنا لأن يرتكبوا الحماقات وأن يكذبوا ويراوغوا ويغدروا ويخونوا، ولذلك نخضعهم لمسطرة القانون، ونحاسبهم كما يحاسبوننا، ولا نريد زعماء ملهمين، أو أولياء صالحين يعقدون النّيّة فيصدق قولهم وعملهم..
نريد دولة حقيقيّة، لا مجرّد قبيلة أو عشيرة تحكمها نوايا كبرائها ونزواتهم… دولة قانون ومؤسّسات، تكون المسؤوليّة فيها واضحة عن كلّ إخلال أو تقصير في خدمة مواطنيها، دولة تقوم على احترام مسالك اتّخاذ القرار وفق القانون والأصول والعرف الدّيموقراطيّ، ولا نريد ألقابا جديدة كالمعتصم والمقتدر والمنصور..إلخ..
كفّوا عن التّعامل معنا بمنطق المستبدّ العادل وأهل البركة المكشوف عنهم الحجاب.. أنتم قادة شعوب ولستم أولياء صالحين أو مجموعة من الدّراويش والمجاذيب المستجاب دعاؤهم لخلاص نواياهم وصدق ضمائرهم… وأعطونا دولة بلا “ضمير”، نعطكم شعبا عظيما.