قصيدة عشق مقدّمات قراءة…

نور الدين الغيلوفي
هذه قصيدة غنائيّة رائعة للشاعر اللبنانيّ جوزيف حرب.. أبدع الموسيقار رياض الصمباطي في وضع لحن لها وفي أدائها.. تحتاج إلى أن تُستقبَل قراءة وغناء.. لمّا سمعت القصيدة الأغنية استفزّتني فبحثت عنها ولكنني لم أظفر بها فعمدت إلى تقييدها من السماع وعملت على تحقيقها اعتمادا على الأنترنيت.. وحاولت أن أرفقها بقراءة لها.. عسى أن أبلغ بعض القصد…
I. القصيدة:
أصابعي…
1. أَصَابِعِي مِـنْكَ فِي أَطْرَافِـهَــا قُبَــــــــــــــلُ *** قَبَّلْتُهُـنَّ، فهـنَّ الجمـرُ يشتعـلُ
2. بريــد حبـــّك فــــــي كفـــــيَّ يحـملـــــــــــه *** إليـك خـوفَ يضيعُ العشـرةُ الرسـلُ
3. قد أقبل الليل وحدي أنت لست معي *** ليـلان ليلي، فقل لي كيف أحتمـل
4. إنّ الرسـائـــل تبكـــــي والعنـــــاقُ يـــرى *** دمعَ الوداع أنا المنديل والخصل
5. أنــــا القتيلـــــــــة والعشــــاق قصتـــــهـم *** أشهى الذي جـاء فيها أنهم قُتلوا
6. هـــوىً وذكـرى ووعـــــــد ضـائـع وأنــــــا *** حــورية بميـاه الريـــح تغتســـــــــل
7. يـــــا للأحبــــة نهــــواهـم ونــــعشقـــهـم *** حتى إذا صار يُبْكِي بُعْدُهُمْ رحلوا
8. أذاكـرٌ أنت وجهــــي؟ إنــــه زمــــــــــــن *** عليه مرسومـــــــــــــة أيّامُنــــَـا الأُوَلُ
9. عيناي إن ضــاقتـا بالدمـع لي جسد *** وأنت عنــــــــــي بعيــد كلـــــه مقــــــل
10. ما كنت ترحـل في يـوم وتتركنـــــــــي *** لو كنت تعلم كـم أهواك يا رجل
11. أمشي إليـك فعمـري كلـه سفــــــــــــــــر *** أمشي إليك على جفني ولا أصل
الشاعر جوزيف حرب
II. التحليل:
لمّا كان الشعر “لغة في اللغة” كما يقول الشاعر الفرنسي بول فاليري في تعريف له للشعر شهير تبيّن أنّه -الشعر- لا يستهدف الأشياء يسمّيها بإطلاق الأسماء عليها.. ولكنّه إنما يطلب الاشتغال على الأسماء ذاتها كأنه يرفع قواعد بنيانها من جديد.. أفلا يصحّ أن نقول عندها إن الشعر تسمية للأسماء؟ بذا يكون لغة في اللغة.. وبهذا يكون للشعرية معناها.. إنّك في الشعر لا تعبر إلى الأشياء مباشرة تسمّيها ولكنك تعبر إليها بتسمية أسمائها الأولى التي وُضعت لها…
ما أبدعَ الشعرَ حين يحكيه النغم.. وبعض الشعر تجلوه الموسيقى.. والموسيقى لها أهلها والقادرون عليها.. الموسيقار رياض السنباطي يحسن اختيار ما يصرفه إلى اللحن ويحمله على أجنحة موسيقاه الخارقة.. أسمعه يترنّم بقصيدة فريدة، ولا أمّ كلثوم لها، أعرف بعد بحث أنّها لشاعر غنائيّ حجبته الموسيقى وما أطرب من الأنغام عن أن يكون مقروءا.. إنّه الشاعر اللبناني جوزيف حرب.. مبدعٌ على شاكلة الشاعر الرقيق بشارة الخوري الأخطل الصغير.. كأنّ الشعر إذ يعانق أرز لبنان يزداد به عتقا وألقا…
ب1
أصابعي منك في أطرافها قبل *** قبّلتهن فهنّ الجمر يشتعل
نفرد البيت الطالع لا لأنّنا نقول باستقلال الأبيات بعضها عن بعض ولكن لأنّ المطلع هو رأس البرنامج الشعري في القصيدة.. في المطلع يقيم الشاعر ملامح بنيانه الشعري ثمّ يتّصل البناء وتتّسق لبناته وتنسجم معانيه..
غريب أمر البحر البسيط (مستفعلن- فاعلن).. ينبسط به النظم فيحدث الانبساط.. وغريب أمر من بسط البسيط.. تأتي قصيدتَه فتهتزّ منك أعطافك انبساطا بما تجد.. قرين الموسيقى وسليل الطرب هذا البسيط.. يعطف القلوب على مغانيه والمعاني…
أصابعي: متفعلن v-v-
زحفت تفعيلتا البسيط واعتلّتا اعتلال الموجوعة بحبيبها.. فكأنّ العروض يحاكي أحوال العاشقة.. تحكي من وجعها فتأتيك الحكاية أدمعاً.. ترقص الحكاية على إيقاع انبساطها ببسيطها.. رقص المظهر وقد وجع المخبر..
اختار الشاعر اللام رويّا لقصيدته أغنيته.. جعل عليها (اللام) مدار أبياتها (القصيدة).. لام الآلام.. وجع القصيدة و.. قصيدة الوجع..
الضمائر: الضمائر مدخل رئيس في قراءة النصوص لأنّها ملمح النسيج. بها تنتظم الجُمَل ويستوي النصّ..
تعدّدت الضمائر في البيت: أصابعي/منك/ أطرافها/ قبّلتُ/ هنّ/ هنّ/ هو(يشتعل).. في البيت احتفال بالضمائر بيّن.. وترتدّ الضمائر على اختلافها إلى ضميرين هما (أنا- أنتَ) لتتسرّبا في مفاصيل القصيدة من فاتحتها إلى المنتهى.. ولعلّ من المفيد بدءا أن نعلم أن المتكلّم في القصيدة امرأة عاشقة تتجه بخطابها إلى رجل معشوق.. على أنّنا لا نكتشف ذلك إلّا مع البيت الخامس:
أنا القتيلة في (ب 5)../ وأنا حورية في (ب6).. وبعد ذلك يتّضح مرجع ضمير المخاطَب المذكَّر: أذاكر أنتَ وجهي؟ في (ب8)/ وأنتَ عنّي بعيد في (ب9).. ومن ذلك يتّضح الطرفان المرسِل والمتلقيّ في القصيدة.. فإذا هي رسالة من أنثى إلى رجل…
وإذا سلمنا بالفرضية التي تقول بأنّ الشعراءَ الرجالَ كثيرا ما يستعملون ضمير المذكّر مخاطَبا دالاّ على الحبيبة فإنّ البيت العاشر، بما ورد به من تصريح، قد خرج بنا من الالتباس إلى تمام البيان من خلال عبارة “يا رجلُ”.. وإذن فنحن أمام قصيدة غزل نسويّ..
أنا- أنتَ/ أصابعــي- منك/ قبّلتُـ- هنّ- فهنّ
المتكلّم والمخاطَب وما بينهما.. فما الذي بينهما؟..هي أصابع في أطرافها قُبلٌ.. القبل هي الرسائل والأصابع الرسلُ.. أصابعي منك.. “وأنت منّي” على حدّ عبارة الشاعر الأمير عبد الله الفيصل في رائعته “ثورة الشك” .. الأصابع بين ضميرين: المتكلّم والمخَاطَب.. وبين الضميرين تداخل وتشابك كما تتشابك الأصابع.. أصابعي أم أصابعك أم أصابعي وأصابعك أم هي أصابعي في أصابعك؟.. يأتي حرف الجر “مِن” فيتكثف به الالتباس ويزيد من أمر التداخل..
قبّلتهنّ فهنّ: ما مرجع هنّ؟ أمرجعُ “هنّ” إلى الأصابع أم أطرافها؟ أم هي القبل؟.. وهل قبّلت الأصابع أم قبّلت القبل –قُبَلَ الحبيب- في الأصابع؟
أصابعي منك في أطرافها قبل/ أصابعي في أطرافها قُبَلٌ منك/ أصابعي قُبلٌ منك في أطرافها.. تداخلت الضمائر فتداخل التركيب إذ تداخلت الأصابع ، وارتبك، من خلال ظاهرة التقديم والتأخير.. كأنّ التركيب يحكي بدوره ما كان من تداخل العاشقين في الصورة…
تسري نيران الوله منه في أصابعه.. قتسري من أصابعه في أصابعها وتتركز في الأطراف منها قُبَلاً.. تشتعل فتتفجّر فتولد من تفجّرها العبارة.. من رحم النيران.. تشتعل.. تسري منه فيها فتسري منها في عبارتها ومن العبارة تعبر إلى القارئ فتتّقد نغما يسيل به إبداع رياض الصمباطي.. والموسيقى تشتعل…
محبّ هو بالفعل وهي الحبيبة.. ومحبّة هي بالشعر والحبيب هو.. “أصابعي منك”.. مربك حرف الجرّ هذا.. فما الذي يعنيه؟ هل قبّل هو منها أصابعها أم سرت القُبل فيها منه بعيدا عن الحسّ؟.. فقبّلت هي أصابعها من بعده.. فاشتعل الجمر من عناق القبلات: قبلاته هو التي تخيَلتها تسري في أطراف أصابعها.. وقبلاتُهُ هي التي فعلتها.. ومن ذلك اشتعلت القصيدة.. أضرم هو بها نار الحبّ بما أتى من فعله أو بما لم يأت ممّا تخيّلت هي من فعله فأوقدت بحرفها من فعله أو من وحي فعله أو بخيالها نارا.. ولقد وَجَدَتْ على النارين هدى..هدى القصيدة…
يتبع…

ولد الشاعر اللبناني جوزيف حرب في قرية المعمارية عام 1944 في جنوب لبنان، درس الأدب العربي والحقوق في الجامعة اللبنانية، مارس التعليم، وعمل في الإذاعة اللبنانية. توفي في 2014.

Exit mobile version