نجاة تونس، مصالحة فرعي الحركة الوطنية

أبو يعرب المرزوقي
بعد أن تعطل التوافق ووقع النداء في خطأين خلال التكوين وخلال الاستعمال، ففي التكوين جمع ما لا يمكن أن يجتمع فكانت عملية تخادع متبادل بين بقايا اليسار والقومية وبقايا نظام ابن علي وبقايا نظام الاتحاد فكان الخطأ تحريف البورقيبية وتحريف الحشادية. أراد اليسار انتهازها لحربه المقدسة ضد الحركة الوطنية بفرعيها.
أما الخطأ الثاني فكان خلال الاستعمال وقد بلغ الذروة في آخر مناورة اصطدمت بالشعب لأنها تبينت له حربا على دستوره وعلى دينه أي على مرجعيتيه القانونية والروحية.
فأصبح الملجأ الوحيد لإنقاذ تونس المصالحة بين فرعي حركة التحرير فرع التأصيل المستنير (الثعالبي) الذي راجع مسيرته وفرع التحديث المتأصل (بورقيبة) الذي عليه ان يراجعها وخاصة بمقتضى مطالب الثورة والمحافظة على البند الأول من الدستور الذي وضعه بورقيبة نفسه في إطار تواصل الدولة.
وأعتقد أن فرصة من بقي نظيفا من الدستوريين، حتى لو اضطر بالواقعية السياسية إلى العمل مع نظام ابن علي، ومن لم يجرم في حق الشعب ومستعد لمراجعة ما في سياسة بورقيبة من “أبوية” مبالغ فيها لعلها كانت مناسبة للظرف ليحافظ على النير من تراثه، أن يشرعوا في الاتحاد للصلح بين فرعي الحركة الوطنية.
فمواصلة الفرع التأصيلي استوجبت الكثير من المراجعات.
ولا بأس من أن يقدم الفرع التحديثي على الكثير من المراجعات.
حينها سيتم الصلح بين المؤسس الاول والمؤسس الثاني للحركة الوطنية، ويصبح لتونس قوتان سياسيتان تعملان اليد في اليد لعلاج شروط استقلال تونس التام بتحرير الإنسان والوطن.
وعندما أقول اليد باليد، فقصدي أنهما في مرحلة أولى تحققان ما يسمى بالتحالف الأكبر لقوتين سياسيتين متفقتين على ما يقتضيه ظرف الانتقال الديموقراطي حتى يستقر النظام الجديد ثم يعودان إلى التداول الديموقراطي، فيكونا مثل الحزبين الأمريكيين أو البريطانيين، كلاهما يحرص على وحدة الشعب والدولة.
ولن يلغي ذلك الأحزاب الصغرى، بل هي تبقى موجودة لأداء وظيفتين ضروريتين في كل نظام سياسي ديموقراطي:
• والأولى هي دور اليمين الذي يحافظ على التأصيل.
• والثانية دور اليسار الذي يحافظ على التحديث دون أن يكون “لتطرفهما” الضروري كمحفز لرؤى القوتين دور الحكم الفعلي لأن الشعوب تفضل التوسط.
ولا أتصور السبسي اليوم قادرا على إعادة تجميع جبهته بالشكل الأول:
• فالتخادع بين طرفي جبهته من بقايا اليسار والابن علويين (فالبورقيبيون لهم أربع أحزاب) غير قابل للتكرار،
• ومناورة ابتزاز الإسلاميين لم تعد تنفع، إذ هي تحولت إلى معركة مع الشعب وليس مع النهضة كما توهم من غرر ببطانته.
• والتوافق لم يعد موجودا
• والكلام عليه كذبة لم يعد أحد يصدقها: فلا يمكن لحزب فقد وحدته وجل قاعدته بسبب هذه المناورة أن يمثل رجلا ثانية يقف عليها.
• والبلاد بحاجة إلى رجلين لكي تقف وتواصل عملية الانتقال الديموقراطي التي هي ليست مطلب الثورة فحسب، خاصة وأن محاولات “التمصير” باتت مستحيلة.
ولا أعتقد أن اليسار والنقابات خاصة يمكن أن تساعد السبسي في عملية استعادة جبهة الإنقاذ بشكلها الأول، لأنها لن تفعل إلا بالتغول وشرطه استبعاد التوافق والحرب على الإسلاميين وكلاهما يصعب أن يقبل به الشعب التونسي لأنه جربهم وعلم أنهم يريدون العودة إلى ما هو أسوأ من نظام ابن علي.
فما يحصل في مصر، فضلا عن الاستبداد والفساد، عاد بالشعب المصري إلى ما قبل القرن العشرين بكل المقاييس في التربية والثقافة والاقتصاد، بل وأخرج مصر نهائيا من كل دور يعتد به في الإقليم ما بقي فيها هذا النظام الذي يعشقه اليسار، بل هم يعشقون أكثر منه، أعني خرابا جنيسا لخراب سوريا والعراق.
وعلى كل، فهذا ما اقترحته من بداية الثورة عندما دعوت إلى ضرورة التلازم بين العفو التشريعي العام والمصالحة العامة التي لو حدثت، لعزلت أعداء الثورة ولتم دعوة التونسيين بكل حساسياتهم السياسية للإسهام في تحقيق أهداف الثورة وللعدالة المحاسبة بقاعدة افتراض البراءة حتى تثبت الإدانة.
فتقديم المصالحة على المحاسبة يحقق هدفين:
• يلغي الخوف العام ويعزل المجرمين
• ثم يحول دونهم والتخويف بمنطق المسؤولية الجماعية الذي يقتضيه تقديم المحاسبة على المصالحة، فلو حاسب الرسول قبل المصالحة لما وجدت دولة الإسلام اصلا ولبقيت الحرب الأهلية حتى الباردة بلا نهاية.
لكن كما يقول المثل التونسي “اللوم بعد القضاء بدعة”.
حصل الذي حصل وينبغي أن نتدارك اليوم وأن يسعى كل من يؤمن حقا بأن تونس للجميع وأن بناءها، وخاصة في مرحلة الانتقال الديموقراطي، يقتضي إعادة بناء الفرع الثاني من الحركة التحريرية: إذا كان الإسلاميون ثعالبيين، فينبغي إعادة البورقيبية.
والبورقيبية إذا راجع أصحابها مثل الثعالبية التي راجع اصحابها مواقفهم، فتحرر الحزبان من حزازات الماضي وعملوا معا، فإن تونس ستخرج سالمة من الأزمة الحالية ومن الانتقال الديموقراطي لأن ذلك هو الحل الوحيد الذي يحبط مراهقات اليسار، وخاصة تغول الاتحاد التي يعمل بمنطق نظام ابن علي.
ورغم أني لا أنفي أن اجهزة الدولة، وخاصة الإدارة فيها الكثير من الفساد، لكنه كان يمكن التغلب عليه لو لم يكن له نظير في الاتحاد الذي كان يقاسم ابن علي ومافيته في تحويل الدولة ومؤسساتها، وخاصة شركاتها الوطنية والضمانات الاجتماعية إلى تكايا وبطالة مقنعة لتوظيف الاقرباء والاصحاب.
فأكثر من نصف موظفي الدولة وموظفي شركاته وموظفي مؤسسات الضمان الاجتماعي زائد عن الحاجة، وهو عمل وهمي وبطالة مقنعة تثقل كاهل الدولة وتمنع نجاح أي مؤسسة حتى لتكون ممولة لذاتها، وبدلا من أن تدر على الدولة ثمرة صارت ترضع الدولة.
والاقتصاد الموازي متناصف بين كلا الحالبين للشعب والدولة (الإدارة والاتحاد).
ولا يمكن إصلاح هذا الخلل الرئيسي لجعل تونس تستقل فلا تمد يدها للصدقات وقادرة على حماية نفسها من دون قوتين سياستين ممثلتين حقا للشعب، ولا يوجد ذلك في غير الثعالبيين والبورقيبيين بالقدر الكافي من الثقل والوزن لتحقيق هذه الشروط السياسية الشجاعة في هذه الحقبة الصعبة.
فإذا لم يقدم الإسلاميون على المساعدة في بناء الرجل الثانية لتونس، بعد أن صارت عرجاء بسبب تفتت حزب السبسي وتشتت الاحزاب الوسطى بينهما وتنمر اليسار والقوميين والاتحاد والمافيات التي تسيطر على الاقتصاد الموازي وتتحالف مع القوى الاستعمارية التي تتحكم في القرار السياسي، فتونس ستغرق.
والفتات السياسي لا يسيطر إلا بالتفتيت، ومن ثمّ فهم سيسعون إلى مزيد الفوضى في السنة القادمة التي هي سنة أعسر بكثير من السنة الحالية.
لذلك فعندي أن واجب النهضة اليوم هو أن تبحث عن التعامل المباشر مع الأحزاب الدستورية وأن تتعامل معهم كحزب واحد بالقوة: فالنهضة وحدها ستجرفها الفوضى القصدية.
وحتى لو نجح السبسي وأسقط الحكومة الحالية، فإن ذلك لن يعيد له ما كان له من بريق في محاولته الأولى لتحقيق التوازن، حتى وإن لم يكن ذلك حقا هدفه لأنه لم يحقق التوازن، بل ادعى “تذويب” النهضة وردها إلى حجم غير مؤثر فحصل العكس، وهو شيء لا يفرحني لأني حقا أريد التوازن بين قطبين جديين.
وحتى لا يحرم باقي الاطياف من المشاركة في حياة البلاد السياسية، فإن كلا الحزبين الاكبرين لا بد أن يكونا مثل الكوكب الذي له توابع حزبية قريبة منه، إما في المرجعية أو في الاستراتيجية السياسية لتحقيق أهداف الثورة وشرطي السيادة:
• شروط الرعاية ضد التسول.
• وشروط الحماية ضد التدخل الأجنبي.
قد يظن بعض قيادات الإسلاميين أن كلامي هذا من جنس النصائح أو التدخل في ما يعتبرون أنفسهم فيه أغنياء عن رأي غيرهم.
سأنهي كلامي بعبارة لعل الكثير من القيادات ينتبهون: السياسة تخضع لقاعدتين وضعهما أرسطو وحللهما بن خلدون:
1. قاعدة التوقع الاستراتيجي
2. وقاعدة الاستسناح بمقتضى المناسبة
فالتوقع الاستراتيجي هو الافق المفتوح لتحليل الظرفيات للتحرر مما يسمونه الإكراهات، ولا يكون ذلك ممكنا من دون تقدير الفرصة السانحة والمناسبة لأخذ القرار المناسب في الوقت المناسب.
فالقرارات التي أخذت بعد فوات الفرصة السانحة كانت نتيجتها عكسية وأبرز مثال هو خاصة: تغيير الموقف من بورقيبة.
فالذين أرادوا توظيفه هم أعداؤه وليسوا أحباءه.
فلا أحد يصدق أن الخلاف بين بورقيبة والإسلاميين علته، على الأقل من منظور بورقيبة، الإسلام من حيث هو إسلام، بل هو اختلاف في فهمه وتأويله.
واعداؤه الحقيقيون هم اليسار الذين كانوا يريدونه أن يذهب إلى ما يذهبون إليه الآن وقادوا إليه السبسي.
والسبسي لا يمكن أن يعتبر من أصدقاء بورقيبة:
فهو حكم مع ابن علي وهو يعيد نظام ابن علي وليس نظام بورقيبة وما التمثال إلا للخداع.
فمن لم يزره في سجنه 13 سنة لا يمكن أن يكون محبا أو صديقا أو حتى ذا قلب رحيم أو يحترم نضال بورقيبة.
والدليل أن برنامجه ابنعلوي قدمه محمد الشرفي.
ففي كتابه الإسلام والحرية، عاب الشرفي على بورقيبة عدم ذهابه إلى ما يتمناه هو وكلفه به ابن علي:
تجفيف المنابع وخاصة العلمانية اليعقوبية الممزوجة بالماركسية المقعدة والتي هي عين ما يطالب به اليسار حليف السبسي والتي هي أصل هذه المناورة التي يسمونها الحريات الفردية والمساواة.
وهنا أكتفي بشهادة السبسي نفسه:
فهو يعتبر مقترحه حول المساواة يتأسس على أننا “لا علاقة لنا بالدين والآيات لأننا دولة مدنية” وهو يعني بالمدنية ليس ما حدده الدستور، سواء البورقيبي أو دستور الثورة، بل القطع مع رأي بورقيبة بأن تونس ليست علمانية لاتباع رأي مجفف المنابع الذي عاب عليه ذلك.
تونس لن ينقذها تخادع بقايا الماركسية والقومية المحرفة للحشادية وبقايا الابن علوية المحرفة للبورقيبية، بل استئناف فرعي حركة التحرير والتحرر التونسية التي يتصالح فيها التأصيل الذي يفهم عصره، والتحديث الذي يفهم أصله باجتهاد وتطور يراعي الظروف ويتجاوز فوضى أحزاب البقايا والبلايا.
فحزب التأصيل قام بالمراجعات، وأخذ بعين الاعتبار مقتضيات العصر، فأصبح من المدافعين عن الديموقراطية فاجتمع عليه الجاميات والعبيد الحاميات في بلاد العرب ومعهم الملالي وعملاؤهم ومليشياتهم، لكن حزب التحديث استبد به من كانوا مجرد عيون، فأرادوا أن يصبحوا أعيانا بالبهتان.

Exit mobile version