أنا أيضا إبنة المدرسة العمومية
ليلى حاج عمر
أنا أيضا ابنة المدرسة العمومية وأشتغل فيها منذ سن 21 ولم أدرّس في غير المعاهد العمومية إيمانا مني بأنّ التعليم يجب أن يكون مجانيا حقّا ومتاحا للجميع. وهو نفس الإيمان الذي به رفضت تقديم دروس تدارك بمقابل. ليس لأنّ لديّ مالا كثيرا، فنحن في التعليم لا نصير أثرياء تماما كما في الكتابة، بل لأني أرى أنّ العلاقة بين الأستاذ والتلميذ أرفع من أن تكون علاقة تجارية وأنّ حلّ المشاكل الماديّة للأستاذ هي مسؤولية الدولة والمجموعة الوطنية التي ينبغي أن تضع التعليم في أولوياتها تماما مثل الصحة والنقل، وأيضا إيمانا مني بأنّ الحل مسؤولية نقابة غير مؤدلجة تضع همّها السياسي والإيديولوجي جانبا وتتركه للأحزاب وتشتغل على تحسين مستوى العيش لدى الأستاذ لـأنّ حريته، حرية الأستاذ التي تسمح له بالتفرّغ الكلي لتشكيل العقول ونحت الأرواح مشروطة براحته المادية وقدرته على توفير أسباب الحياة التي تليق به وبأبنائه.
دافعت عن التعليم العمومي وسأدافع. كلّ الخراب حولي لن يقلّل من إيماني بالتعليم العمومي. خراب جعل الكثير، حتّى ممّن بدّعون الدفاع عن التعليم العمومي، يقفز على الفرصة لإنجاز مشاريع تعليمية خاصة لم تستطع حتى الآن أن تنافس العمومي في نتائجه رغم أننا نشتغل في ظروف الحد الأدنى. ولأنّي لم أعد على يقين برهان الدولة على التعليم فإني صرت أميل إلى إيجاد حلول فرديّة أو جماعية مشتركة لمواجهة المآزق التي تواجهنا. لذا أعتبر أنّ ذلك الفضاء الضيق المسمى قسم يمكن أن يتحول إلى فضاء حرية للأستاذ وللتلميذ معا من أجل بناء مشترك للمعنى عبر كسر القوالب والطرق التقليدية وتلمس السبل غير المطروقة وكسر الحواجز بين المواد كي لا يصبح القسم طاردا للتلميذ الذي لا يجد فيه أيّ متعة.
أنا خريجة التعليم العمومي والعاملة فيه أعترف أني أشعر بالفشل وأنا أعاين العطب في العقول والأرواح الذي نتج عن توظيف سياسي لئيم للتعليم خلال 30 سنة تقريبا ونتيجة فساد خرّب بيته ولم تقع محاسبة المسؤولين عنه إلى اليوم. فشل يجعل رهانات التعليم العمومي اليوم متعدّدة وملحّة. وهي رهانات بعيدة عن المنطق النفعي للتعليم الخاص حيث البزنس هو الذي يحكم كلّ العملية التعليمية.
الرهان الحقيقي للمدرّس ليس نسبة النجاح الرسمية التي قد تنتج عن حشو مكثّف للعقول سنة الامتحان بالدروس الخاصة وضخّ الأموال وكأنّنا في سياق تعليب للرؤوس وفق الطلب (تماما مثل “عشعشة الأكباش قبل الذبح)، بل رهانه الحقيقي في ترويض العقول على التفكير وتحريرها من الوثوقية وتوهم امتلاك الحقيقة (محنة التونسي اليوم في المعارك التي يخوضها) ومن الانفعال (محنة العرب عموما) ومن الأنانية والجشع والكبر والرغبة في إلغاء الآخر الذي يشاركه الهواء وحذفه إن اختلف معه. رغبة تزداد حدّة اليوم مع التجربة الديمقراطية وهي مفارقة غريبة نعيشها تدلّ على أنّ رواسب الاستبداد عميقة جدّا في وعي التونسي ولاوعيه. أعتبر أنّ أكبر فشل للتعليم اليوم هو عجزه عن بناء عقول قادرة على العيش المشترك ومتمكّنة من التفكير الموضوعي بعيدا عن التشنّج والسطحيّة والانفعال الذي قد يتحوّل إلى عنف. وهي عوائق تجعل معاركنا اليوم أقرب إلى الحرب منها إلى الحوارات العميقة الهادئة. إنّها تبادل للقتل المعنوي برصاص الكلمات الجارحة.
والرهان الحقيقي للأستاذ أن يعلّم، نسبيا، القراءة الصحيحة للنصوص. فنحن لانزال نتعثّر في قراءة النصوص. قراءة عقلية نحفر فيها وراء المعنى ولا نكتفي بالسطح. الاكتفاء بالسطح أنتج عقولا مسطحة ووعيا مسطحا. والقراءة تتعدّى النصوص إلى قراءة الواقع في أبعاده المختلفة الفيزياية والرياضية (نسبة إلى الرياضيات) والاجتماعية والسياسية والثقافية والاقتصادية. تعلّم القراءة الصحيحة تمنع التلاعب بالعقول وتسلّح القارئ الجيّد بالفكر النقدي لأنّ النقد هو أحد مستويات القراءة الأعمق. التحليل السليم يفضي حتما إلى فهم سليم ومواقف سليمة.
عدم التصديق والتسليم المطلق وعدم إطلاق الأحكام المسبقة هذه التي أوصانا بها المعلّم العظيم الجاحظ (كم نحتاج هذا الجاحظ اليوم) والتنسيب الذي يجعلنا لا نحمل السيف أو الحجارة استعدادا للرجم ونحن نواجه الرأي الآخر الأكثر وجاهة من رأينا، ألا يحتاج هذا المجتمع الذي يغرق في الإطلاقية إلى هذه الفعاليات العقليّة؟ وأليست هذه المهمة الأساسية للتعليم؟
ثمّ، أليس الرهان أيضا تصالح ذلك الطفل الذي أمامنا مع نفسه ومع جسده. أن لا يقبل أن يسيء إلى جسده أو جسد غيره. أن يحترمه بعمق. آنذاك سيرفض كلّ أشكال الأذى. وهذا يقتضي فضاء تعليميا مريحا للتلميذ بدءا من الطاولة التي يجلس عليها لساعات وصولا إلى المعلّم والأستاذ الذي لا يتمثّل دوره في أن يهينه أو يعنّفه. آنذاك سيرفض مستقبلا كلّ أشكال الإذلال التي تفرض عليه بأنواعها. وآنذاك سيكون حرا، وآنذاك سيفكّر تفكيرا سليما.
حين يسألني تلامذتي في الشعب العلمية لماذا ندرس الفلسفة واللغات في الشعب العلمية أقول لهم: لتفكّروا. والتفكير لا يكون إلا باللغة وداخلها. ثمّ لتتملّكوا القيم التي بها نوجد ونحقق العيش المشترك. الأدب خزّان قيم. ومن لا يرتوي بهذه القيم سيصير طبيبا تاجرا ومهندسا سارقا ورجل أعمال فاسدا وأستاذا بائسا ورجل دين سطحيّا ومتزمّتا وإعلاميا قذرا وسياسيا فاشلا.
العقل المركب بطريقة صحيحة وحده قادر على إنقاذ البلاد. والتعليم الصحيح وحده هو القادر على تركيب العقول الصحيحة. دون ذلك لنا ما نستحق من تأخّر وفوضى.