العنصرية لا تنتج إصلاحا
نور الدين الغيلوفي
قراءة في خطاب رئيسة لجنة الحريات الفردية والمساواة
قالت رئيسة لجنة الحريات الفردية والمساواة السيدة بشرى بلحاج حميدة
“إن ردود أفعال بعض التونسيين تجاه تقرير اللجنة كشفت حقدا طبقيا تجاه متساكني المدينة والأثرياء والطبقة المثقفة” (…) إنّ هنالك فئة اجتماعية في تونس “لا تشترك مع باقي التونسيين في الإرث المدني والتصور المجتمعي (…) إن هناك فوارق في مستوى الإدراك الذهني بين التونسين، الشئ الذي جعل التقرير يلقى رفض البعض (…) إن أعضاء اللجنة كانوا يتوقعون ردود فعل عنيفة تجاه مضمون التقرير”.
•••
لست معنيا في هذا المقام بالحديث عن مضامين تقرير لجنة الحريات الفردية والمساواة.. ولكنّني أكتب هذه التدوينة تعليقا على خطاب رئيسة اللجنة التي تمعن في الخطإ، كلّما أدلت بتصريح، غباء أو استغباءً.. إذ كان عليها بعد أن أتمّت مهمّتها التي كُلِّفَتْ بها أن تلتزم صمتها وأن تنتظر مآل التقرير وقد صار بين يدي رئيس الجمهورية ليحسم في أمره البرلمانُ من بعده.. فلماذا تصرّ هي على إضرام المعارك في كلّ مناسبة وهي المحامية العارفة بالقانون النائبة المسؤولة أمام الشعب في البرلمان؟.. أليس من واجب المسؤول التحفُّظُ؟.
•••
نعود إلى تصريح السيدة الرئيسة المحامية النائبة..
هل يصلح أن يصدر مثلُ هذا الخطاب عن رئيسة لجنة وطنية تستهدف إصلاح المجتمع والرقيّ بتشريعاته إلى مستويات البلاد المتقدّمة؟
لا يبدو ذلك..
مثلما كانت السيدة رئيسة اللجنة صريحة في تعبيرها عن انفعالاتها بخطاب التوديع الذي ألقاه المخلوع ليلة 13 جانفي 2011 واختارت اللغة الفرنسية كي تعبّر عن وجعها آنذاك، كانت واضحة في تصريحها الأخير بين يدي ندوة أقامها حزب المسار (!) في شأن تقرير الحريات الفردية والمساواة.. لن نحتاج إلى تأويل نقرأ به مضمَرات خطابها وسنكتفي من القراءة بالمعجم الذي استعملته السيدة الرئيسة.. وهو معجم بعيد عن جميع مفاهيم الديمقراطية والحريات وحقوق الإنسان… لقد جاء خطابها مفعَمًا بعنصرية فجّة وتقسيم للمواطنين خطير وتمييز بينهم مخيف.. وفي ذلك تناقض مع جميع معاني الحريات والحقوق ومع ما يُعرَف من مقاصد الإصلاح.. إذ هي تقسّم التونسيين إلى عنصرين:
• عنصر الأغيار.. و عبّرت عنه بــــــــ:
بعض التونسيين… فئة اجتماعية… البعض… وهي تسميات، رغم ما فيها من اعتراف بتونسيّة هذا الفصيل، فإنّها لا تخفي شحنة الاستهجان وروح الاحتقار اللّتين تصدر عنهما السيدة رئيسة اللجنة.. إنّ في كلامها تهوينا من هذا العنصر وتقليلا من شأنه، بل إدانة له لأنّه، في مواقفه إنّما يصدر، حسب فهمها، عن حقد طبقيّ لا غير… وهؤلاء الحاقدون لا يمثّلون قاعدة الشعب التونسي العريضة بل هم استثناء لا معنى له.. وليس من حقّ الاستثناء أن يرفض ما لا يراه مناسبا له.. وإن شاء الانخراط في “السياق الوطني” والدخول إلى المربّع الحداثي والالتحاق بركب المواطنة الكونيّة فما عليه إلّا الموافقة على كلّ ما جاء في تقرير اللجنة بدل رفضه.. والتسليم به بدل الاحتجاج عليه.. هذا العنصر يصلح به الانصياع وليس مطالبا بالاقتناع.. وذلك من مقتضيات الديمقراطية كما تفهمها السيدة الرئيسة التي لا ترى فائدة من استفتاء شعب لا يفهم شيئا.. شعب انتهت مهمّته عندما أوصلها هي وأمثالها إلى سدّة البرلمان لتمارس فعل الرجم عليه نكاية به…
أمَا كان للأستاذة أن تبحث في اقتراحات تزيل أسباب الحقد الطبقيّ بدل مزيد تكريسها بهذا الخطاب الفجّ؟
• أمّا العنصر الثاني فشعب الله المختار.. وقد عبّرت عنه السيدة رئيسة اللجنة بـ:
متساكني المدينة… باقي التونسيين.. الأثرياء… الطبقة المثقّفة.. في ربط سمج بين الأثرياء والمثقَّين الذين جعلت منهم طبقة متميّزة قرينة الثراء المادي وهم سكّان المدينة وتعني بها الحاضرة دون سواها.. بل الشقّ المحظوظ من الحاضرة دون غيره…
•••
لقد أقامت السيدة رئيسة اللحنة جدارا عنصريا عازلا بين شعبين غير متساكنين ليست المواطنة أعدل الأمور قسمة بينهما… وبدل أن تتسلّح بالعقل تدافع به عن تقريرها بحجج مقنعة تستهدف بها البحث عمّا يوافق أفق انتظار الشعب التونسي بجميع أطيافه دون تفرقة.. بدل ذلك صدر عنها خطاب حربيّ لا يليق بامرأة تنتصر لقيم الأنوثة في مجتمع يُتَّهَمُ بكونه مجتمعا ذكوريا ظالما للنساء.. إنّ تغافلها عن المشترَك بين التونسيين وتأكيدها على ما تسميه “فوارق في مستوى الإدراك الذهني” سيدقّ إسفينا بين التونسيين ويؤجّج أحقادا مؤجّلة لن تجني البلاد منها، إن هي أُضْرِمَتْ، سوى الويلات.. لا يبدو أنّ السيدة رئيسة اللجنة تفهم معنى الديمقراطية ولا تقرّ بالاختلاف.. ولا تفسير لديها لاختلاف غيرها عنها سوى “فوارق في الإدراك الذهني” بين عنصرين أحدهما في أعلى عليّين بينما الثاني في أسفل السافلين.. إنّ كلّ من لا يوافقها رأيها ينتمي إلى “طبقة” غير مثقّفة مستوى إدراكها الذهني محدود وتحتاج من يرافقها للصعود !
إنّ مثل هذا الخطاب يفرّق ولا يجمع.. يهدم ولا يبني.. إنّه خطاب تحريضيّ غبيّ لا يساعد على تمرير التقرير بل يقطع عليه الطريق.. إنّ فيه تحريضا لطبقة الأثرياء ضدّ مجتمع الحاقدين وتحريضا للمستضعَفين ضدّ المتسبّبين في فقرهم باحتكار ثروات البلاد واستيلائهم على مختلف المرافق دونهم.. وقد عيّنت موضعهم الجغرافيَّ لهم، وما عليهم إلّا محاصرتهم في شعابهم واسترجاع البلاد منهم…
•••
أخيرا.. رسالة إلى السيدة رئيسة اللجنة..
إنّك بهذا الخطاب إنّما تقطعين الطريق على التقرير الذي أنجزته لجنتك وتضعين من ومن البلاد وهي في أشدّ الحاجة إلى زمنها لتعبر أزماتها بسلام…
لم ينس لك الناس انحيازك للدكتاتور ضدّهم ليلة 13 جانفي 2011.. وبدل أن تبدّلي جهة انحيازك وتقفي جنبَ الناس الذين انتخبوك نائبة لهم بمجلس نوّابهم، عسى أن يغفروا خذلانك إيّاهم عندما عبّرت عن تأثّرك المبالغ فيه بخطاب التوديع.. بدل ذلك انسقت وراء هوى عنصريّ قد يرضي غرورك ولكنّه لن يجعل لك بين شعبك مكانة.. ولست هنا أناقشك في مضامين التقرير لأنّني أؤمن بالاختلاف قاعدة للاجتماع…
إنّ شعبا خذلتِه على المنابر وهو يجمع جثث شهدائه عند الطرقات ووقفت جنبَ المستبدّين الفاسدين لن ينسى بسهولة صلفًا ركبك وأنت تحاججين لأجل تمرير تقرير وضعته لجنتك لا يعدو أن يكون اقتراحا عند من يفهم معنى الديمقراطية…