اليوم إزدان بيتنا بضيف عزيز مبجل

عبد اللطيف علوي
انتظرته “وعد” منذ فترة، وتلكّأتُ كثيرا في إحضاره، حتّى غُلبتُ على أمري… 
سافرت إليه أنا وزوجتي وقطعنا 140 كلمترا، ولمّا وصلنا إلى دار أصهاري استقبلونا بالفرح والحفاوة، ووجدناه مستغرقا في بعض شأنه رفقة بركوسته السّمراء الجميلة، رفع رأسه متثاقلا ونظر إلينا بارتياب واضح، ثمّ استدار وأكبّ من جديد يكمل حصّته من العلف.
حانت العودة، فطويت له الكراسي الخلفيّة من السّيّارة، وفرشتها ب”باش” وحصيرة قديمة (قالت لي وعد: لم يبق إلاّ أن تضع له الحفّاظات)، ثمّ طرحناه أنا وصهري، وقيّدناه بإحكام ووضعناه في السّيّارة. كان جسيما وسيما أقرن ألين كبشويّ الهيئة، رغم أنّه مازال في طور البركسة، وسرنا قليلا، فأخذ يتخبّط وينتفض من حين لآخر، فيؤلمه القيد ويسقط مهزوما، تكرّر الأمر أكثر من مرّة حتّى خشيت أن يكسر قرنيه أو يكسر البلّور الخلفيّ، فأوقفت السّيّارة وفككت رباطه، لكنّه لم ينهض، ظلّ طول الطّريق جاثما صامتا حزينا، وزوجتي تلحّ عليّ أن أتفقّده لعلّ مكروها أصابه، لكنّني أكّدت لها أنّ ذلك يحدث معنا جميعا… كثيرون حين ينزع القيد عن معاصمهم يظلّون لوقت طويل يتوهّمون وجوده، في أيديهم وأرجلهم، ويحتاجون إلى صدمة أقسى كي يكتشفوا أنّهم صاروا أحرارا. ظلّ طول الطّريق على تلك الحال حتّى وصلنا إلى نقطة الاستخلاص بالفجّة، توقّفت السّيّارة، فانتفض فجأة ليكتشف أنّ القيد قد نزع، أخرج رأسه من النّافذة واندفع يثغو ويبعبع بصوت بدويّ غليظ لفت انتباه الجميع، وراح بعض الأطفال في سيّارة أخرى يلوّحون له بأيديهم ويرمون إليه القبل وهو يعربد خلفي ويتجلّى للمارّة… راح طول الطّريق يثغو بانزعاج شديد، كلّما رأى قطيعا في إحدى البطاح المنتشرة على طول الطّريق أو زميلا له في سيّارة أخرى، ويقلّب عينيه في المشاهد الغريبة الّتي تركض على الجانبين، مقاه ومغازات وكاراجات وحاويات عملاقة وحافلات وفتيات رشيقات… بدا فعلا أنّه في غاية الدّهشة والإحساس بالغربة، كدت أقول له: أنا أتفهّم شعورك هذا يا صاحبي، فقد قضيت في هذه المدينة الصّمّاء أكثر من ثلاثين سنة، لكنّني لم أنس يوما أنا أيضا بركوستي الجميلة، ولم أستطع أن أعوّد عينيّ على قوالب الإسمنت الخرساء عوض المروج والغدران والسّواقي والهضاب والجبال والأجراف والحصائد…
حين وصلنا طارت وعد فرحا، ضمّت زائرها الحبيب وأدخلته إلى المنشر… صمت تماما وظلّ يقلّب عينيه فينا جميعا ونحن خائضون حوله كالهنود الحمر، ثمّ خرجت لأشتري له ما تعسّر من العلف والقرط، لأحتفل به في ليلته الأولى كما يحتفل بضيف كريم، لكنّه لم يبد أيّ اهتمام ولم يلتفت إلى الماء ولا إلى العلف…
غدا سوف يصحو على واقع جديد، سيعضّه الجوع في أمعائه ويأكل بلهفة، وسيعتاد سريعا على وجوهنا ويبعبع فرحا لنا كلّما أطللنا عليه، وسينسى بركوسته الحسناء الشّابّة الّتي تركها في أقاصي الدّنيا ويرضى بصحبة الإسمنت والقضبان، وسنتعوّد عليه نحن أيضا، ونحبّه بصدق حقيقيّ جدّا، وسنطعمه من أكفّنا حبّا لا نفاقا، ونسقيه بأيدينا وأعيننا، ونفرح كلّما رأيناه يجترّ بسعادة وينقر الأرض بقوائمة الرّشيقة الرّائعة، غدا سنحبّه كثيرا، سنحبّه كثيرا كثيرا كثيرا … إلى درجة أنّنا سنختار له أمضى السّكاكين وأقطعها وأحدّها نصلا.
#عبد_اللطيف_علوي

Exit mobile version