رسالة الغنوشي إلى السبسي

عبد اللّطيف درباله
راشد الغّنوشي يحتفل بذكرى لقاء باريس مع السبسي.. ويثمّن التوافق.. ويتعهّد بمواصلته معه هو بالذات..
ويعطي إشارات قويّة عن إمكانيّة تخلّي النهضة عن الشاهد قريبا بمجرّد تصريفه الأعمال العالقة في أجل أقصاه 15 أكتوبر..!!!
نشر رئيس حركة النهضة راشد الغنّوشي مقالا مطوّلا على صفحته الرسميّة على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك يوم أمس الأربعاء 15 أوت 2018 بمناسبة ما قال أنّه ذكرى لقاء باريس سنة 2013 بينه وبين الباجي قايد السبسي.. والذي أدّى إلى سياسة التوافق..
ويثير المقال الملاحظات التالية:
1. أنّ المقال وتثمين سياسة التوافق.. عبر قيام الغنّوشي منفردا بالإحتفال بذكرى لقاء باريس الشهير.. جاء بمبادرة تلقائيّة من راشد الغنّوشي.. في وقت عرفت فيه علاقته بالسبسي أزمة حادّة بعيد رفض الغنّوشي رغبة الباجي في تغيير يوسف الشاهد وحكومته.. وما قيل أنّ ذلك كان إيذانا بتوقّف مسار التوافق بين الشيخين.. وبين الحزبين النداء والنهضة..
وهو ما يحمل على الإستنتاج بأنّ الغنّوشي وكأنّه خلق الفرصة من العدم.. ليستغلّ تاريخ 15 أوت.. ليكتب مقالا يضمّنه رسائل سياسيّة قويّة ومباشرة إلى “صديقه” و”حليفه” الباجي قايد السبسي.. وذلك في ظرف سياسي صعب.. وفي وقت أزمة مع رئيس الجمهوريّة..
وكأنّ مقال الغنّوشي جاء لإعادة إحياء هذا التوافق.. بإظهار رئيس حركة النهضة تقديره للباجي.. وإقتناعه الكامل بالتوافق معه ماضيا.. ومستقبلا.. فيما قال أنّه ليس مجرّد توافق تكتيكي وقتي.. وإنّما قناعة وسياسة طويلة الأمد..!!
2. أنّ خطاب الغنّوشي اتّجاه السبسي كان وديّا جدّا ودافئا.. حتّى أنّه لم يكتف بمناداته في المقال بالألقاب الرسميّة مثل “السيّد” و”رئيس الجمهوريّة”.. وإنّما كرّر عبارة “سي الباجي” كما تعوّد مناداته شفاهيّا.. وذكّر بلقاءاتهما المتبادلة في منزله ومنزل الباجي.. وبتعاملهما بصدق.. وبأنّهما أنقذا تونس.. وأنقذا الثورة.. وأعادا كتابة التاريخ الحديث للبلاد..
3. أنّ راشد الغنّوشي لم يذكر طوال مقاله الطويل إسم “يوسف الشاهد” أبدا في شخصه لا تصريحا ولا تلميحا.. رغم أنّه حلّل كامل الوضع السياسي الراهن.. والمشاكل الظرفيّة.. وسياسة التوافق.. وحدّد أهداف المستقبل.. والتحالفات المطلوبة والقادمة.. وتحدّث عن رئيس الحكومة لكن فقط بالصفة والمنصب لا بالإسم.. ممّا يوحي بأنّ الشاهد لم يعد في الصورة حاليّا كشخص لدى الغنّوشي.. ولا هو ضمن برنامجه القادم.. وأنّ الشاهد لا يعني للشيخ أيّ خيار سياسي طويل الأمد..!!
4. أنّ راشد الغنّوشي ذكر حرفيّا في خلاصة مقاله الذي أكّد فيه على بعض النقاط.. وفي النقطة الأولى تحديدا:
“الإلتزام التام بخيار التوافق مع رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي واعتباره الإطار الأمثل للحوار حول كل القضايا للوصول إلى حلول وبدائل وتوافقات، بعيدا عن منطق الغلبة وفرض الرأي، وهو المنهج الذي توافقنا عليه في باريس وتوفقنا بعون الله وحمده إلى الحفاظ عليه.”..
وأن يأتي هذا القول في وقت بدأ الصراع بين رئيس الجمهوريّة الباجي قايد السبسي وبين رئيس الحكومة يوسف الشاهد يحتّم الوقوف مع أحدهما ضدّ الآخر.. باعتبار وصول الخلاف بينهما إلى نقطة اللاّعودة.. خصوصا وأنّ الباجي جعل عزل الشاهد أولويّته الشخصيّة والسياسيّة.. في حين وقفت النهضة بقرار رئيسها راشد وموافقة أغلب قياداتها مع بقاء الشاهد بدعوى “المحافظة على الإستقرار الحكومي”.. فإنّ تأكيد الغنّوشي “الالتزام التامّ بخيار التوافق مع رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي”.. يعني ضمنيّا أنّ الغنّوشي قد يكون أعطى إشارة قويّة للباجي بأنّه متمسّك بالتوافق معه هو شخصيّا وبالذات وبصفة أوّليّة.. لا بالتوافق أو التحالف مع يوسف الشاهد..
5. أنّ راشد الغنّوشي أرسل للسبسي إشارات إيجابيّة في ما يخصّ مبادرته الخاصّة بمشروع القانون حول المساواة في الإرث بين المرأة والرجل.. وإن كان ربطها بالإجتهاد والنقاش والحوار والصياغة.. وذلك بقوله حرفيّا:
وفِي هذا السياق نؤكد أننا سنتفاعل مع مبادرة رئيس الدولة حول الإرث حين تقدم رسميا الى البرلمان، بما تقتضيه من الحوار والنقاش للوصول الى الصياغة التي تحقق المقصد من الإجتهاد وتجعل من تفاعل النص مع الواقع أداة نهوض وتجديد وتقدم لا جدلا مقيتا يفرق ولا يجمع، ويفوت على التونسيين والتونسيات المزيد من فرص التضامن والتآلف، وتساعدنا جميعا على المضي قدما في تحقيق إزدهار المرأة التونسية.“..
ولا يعرف هل أن كلام راشد الغنّوشي هذا في ما يخصّ المساواة في الإرث هو عن قناعة من الغنوشي في مسألة دينيّة معقّدة وشديدة الحساسيّة بالنسبة لقيادات وقواعد وأنصار حزبه النهضة.. أم هي مجرّد وعود منمّقة وجميلة ترضي غرور الباجي.. إلى أن يجد الشيخ مخرجا للموضوع..!!
6. أنّ الغنّوشي حاول في المقال تبرير تمسّكه بيوسف الشاهد وحكومته بأسباب موضوعيّة لا شخصيّة..
وحرص على التأكيد بأنّ ذلك لا يعدّ بحال تعارضا مع التوافق مع رئيس الجمهوريّة..
وعلى أنّه لا يعني أنّ النهضة ورئيسها غيّرا التوافق مع الباجي بالتحالف مع الشاهد..
والأكثر من ذلك فإنّ راشد الغنوشي برّر عدم إمكانيّة تغيير الحكومة بعوامل ظرفيّة ووقتيّة.. لا بعوامل تخصّ كفاءة الحكومة أو الإستقرار السياسي.. أو عدم جواز تغيير الحكومة قبل سنة واحدة فقط من الإنتخابات.. باعتبار أنّه لم يكن من الممكن بحسب المقال تغيير الحكومة في رأي الغنّوشي وفي تبريره المقدّم بالمقال.. قبل الإنتخابات البلديّة.. ولا في ذروة الحوار مع المؤسسات الدوليّة المانحة.. ولا في ذروة الموسم السياحي في ظلّ تهديدات إرهابيّة لا مجال لمواجهتها بحكومة تصريف أعمال.. ولا قبل فترة قصيرة من الأجل الدستوري لإيداع قانون المالية القادم في مجلس نواب الشعب..
ويعني ذلك بوضوح أنّ الغنّوشي وبعد أن كان يتحدّث عن ضرورة بقاء حكومة يوسف الشاهد إلى الإنتخابات القادمة في نهاية سنة 2019.. والإكتفاء بتعديل حكومي جزئي.. ربط في مقاله الجديد بقاء حكومة يوسف الشاهد بمجرّد إستحقاقات ظرفيّة.. أي بمجرّد الحاجة إلى إستكمال حكومته لأعمال ومهام مهمّة لا تنتظر التأجيل.. والملاحظ أنّ أقصاها ينتهي زمنيّا في شهر أكتوبر.. إذ أنّ جولة المفاوضات القادمة مع صندوق النقد الدولي لصرف القسط الموالي والأخير من القرض لسنة 2018 تنتهي في شهر أكتوبر.. وإنّ آخر أجل لإيداع قانون المالية القادم في مجلس نواب الشعب هو 15 أكتوبر بحسب الفصل 66 من الدستور..
وهو ما يعني بأنّ تغيير حكومة يوسف الشاهد تصبح ممكنة بحسب تحليل نصّ مقال راشد الغنّوشي بانتهاء المهام العاجلة المذكورة للحكومة في منتصف شهر أكتوبر القادم.. أي خلال شهرين من الآن..!!
ويعني عبر الإستنتاج العكسي بأنّ رئيس حركة النهضة أسقط ما تمسكّ به هو وحزبه سابقا من ضرورة بقاء حكومة يوسف الشاهد حتّى الإنتخابات القادمة..!!!
وهذا النصّ الحرفي من مقال الغنّوشي في الخصوص:
ثالثا: أن دعوتنا الى الاستقرار الحكومي لم تكن متعارضة مع خيار التوافق مع رئيس الجمهورية أو بحثا عن أُطر بديلة عنه بل تقديرا للمصلحة الوطنية. فلم يكن من الممكن تغيير حكومة في ذروة الانتخابات البلدية وقبل ان تستلم المجالس المنتخبة مسؤوليتها، ولا في ذروة الحوار مع المؤسسات الدولية المانحة، ولا في ذروة الموسم السياحي في ظل تهديدات ارهابية لا مجال لمواجهتها بحكومة تصريف اعمال، ولا قبل فترة قصيرة من الأجل الدستوري لإيداع قانون المالية القادم في مجلس نواب الشعب.“..
7. أنّ الغنّوشي أعاد التأكيد في مقاله على ضرورة أن يتعهّد يوسف الشاهد بعدم الترشّح للانتخابات القادمة إن أراد البقاء في الحكومة حتَّى ذلك الوقت… فقد قال في النقطة الرابعة من خلاصة مقاله:
أن التنافس الحر هو من صميم الديمقراطية وأن الطموح الشخصي للوصول الى الحكم عبر الصندوق حق دستوري لا يمكن المساس به أو إدانته، ولكن وكما قلنا سابقا فان الديمقراطية الناشئة لها مقتضياتها..
.. ومن منطلق خصوصية التجربة فإننا نجدد التأكيد على أن مواجهة تحديات المرحلة القادمة تقتضي تفرغ الحكومة لمهمتها في التنمية ومحاربة الفساد بعيدا عن التجاذبات الانتخابية والحزبية.“..
ومعنى ذلك بوضوح أن على الشاهد بحسب الغنوشي أن يختار بين البقاء في الحكومة والتنازل عن طموحه الشخصي في الترشّح للإنتخابات.. وبين ممارسة حقّه في المنافسة والترشّح ومغادرة الحكومة حينها..!!
وباعتبار أنّ الجميع يعرف برغبة الشاهد في خوض إنتخابات 2019.. والتمتّع بالسلطة لسنوات قادمة وهو يعتقد انّه قادر على الفوز.. فإنّه لن يتنازل على الأرجح عن طموحه ذلك مقابل بضعة أشهر زائدة في الحكم الآن..
وهو ما يعني أنّ النهضة يمكن أن تجعل من هذه الثغرة منفذا للخروج من مساندتها للشاهد باعتبار أنّه هو من رفض شروطها..
وخلاصة الأمر أنّ القارئ لمقال الغنّوشي سيجد مؤشّرات قويّة لرسالة سياسيّة مباشرة للباجي قايد السبسي.. في وقت عرفت علاقة الرجلين مؤخّرا خلافا وفتورا وأزمة.. وذلك بتعبير زعيم النهضة عن الرغبة.. من جديد وبقوّة وقناعة.. في مواصلة سياسة التوافق مع رئيس الجمهوريّة السبسي هو بالذات.. وأنّ التمسّك برئيس الحكومة الشاهد لا يرتقي لتحالف استراتيجي يعوّض سياسة التوافق تلك.. وأنّ العمر الافتراضي للشاهد وحكومته يمكن أن ينتهي خلال شهرين فقط بحلول منتصف شهر أكتوبر القادم..
فهل سيقرأ السبسي الرسالة؟؟
وكيف سيكون ردّ الباجي عليها وقد بدأ رحلة حشد تحالف سياسي جديد يجمع القديم المنشقّ.. ويستقطب القوى المختلفة.. من أجل جمع الـ 109 أصوات اللاّزمة لعزل الشاهد ولو رغما عن مساندة النهضة له..؟؟؟!!!

Exit mobile version