أبو يعرب المرزوقي
تكلمت على حقوق صاحب التركة وحقيه من منطلق حقوق الإنسان لئلا أدخل الحمقى من العلمانيين في المقابلة بين الرؤية الدينية والرؤية المزعومة عقلية، لتوزيع التركات.
وبينت أن منطلق حقوق الإنسان يكفي لبيان حمقهم وسطحية فكرهم:
• حق حرية المعتقد.
• وحق حرية المالك في ملكه.
ولا أنفي أن الأنظمة الحديثة تحد من حرية المالك بمقتضى الصالح العام، كما تحد من حرية المعتقد بمقتضى النظام العام.
فإطلاق حرية المعتقد قد تتضمن بعض الممارسات التي بعض المعتقدات يمكن أن تخل بالنظام العام.
وإطلاق حق الملكية قد تتضمن بعض التصرفات التي قد تخل بالصالح العام.
لذلك فكلامي عليهما لا يستثني إمكانية تدخل السلطة السياسية الشرعية فيهما بمقتضى هذين المبدأين.
ولا شيء يثبت أن الفرائض بمفهومها القرآني التي يتعلق بها هذان الحقان بمقتضى حقوق الإنسان يمكن أن يخلا بالمصلحة العامة أو بالنظام العام.
ومن ثم فالمسألة محسومة: تدخل الدولة هنا عدوان.
ما أريد الكلام فيه الآن بعد حسم هذه المسألة الأولى هو الوجه الثاني من القضية:
وجه الورثة وليس صاحب التركة.
وأسأل: هل للورثة حق في التركة؟
أم إن الأمر يتعلق بإرادة صاحبها وبما ينتظره من مآل ثمرة جهده حتى يتواصل في فروعه خاصة مع بعض العرفان لأصوله مع حفظ حقه ذاته مثل تسديد ديونه؟
فالورثة لا حق لهم في حياة صاحب التركة.
ولا يصبح لهم حق بعد وفاته إلا بإرادته التي يحددها قبل وفاته:
• إما بالوصية (لغير الورثة والسنة تفرض ألا يتجاوز الثلث وتمنع الوصية للورثة)
• أو بالأسهم التي تحددها الفرائض إذا كان مسلما أو القوانين الوضعية في الأنظمة التشريعية الأخرى (مثلا فرنسا)
وهي إذن ليست حقوقا بمعنى الحقوق الطبيعية التي من جنس حقوق الإنسان، بل هي حقوق وضعية بمقتضى إرادة المالك مع شرع ديني أو شرع وضعي، وكل ذلك لا يمكن اعتباره حقوق طبيعية، بل هو حقوق شبه تعاقدية بين المالك وذاته مع تدخل من سلطة تشريعية دينية أو وضعية: إذن هي تصرف في حق المالك بعد حياته.
وحتى أوضح الفكرة لأنها شديدة اللطافة:
هل يمكن أن أقول إن ما يكون عليه الإنسان في كيانه العضوي الذي يرثه من أبيه وأمه وممن تقدم عليهم أن يعتبر ما يرثه منهم حقا له وأن يطالب بالمساواة فيه بين الذكر والأنثى وبين الطويل والقصير وبين الجميل والدميم وبين الذكي والغبي؟
كل ذلك هبة طبيعية.
ما يرثه الأبناء من الآباء من مملوكات هو أيضا هبة، والفرق الوحيد أن الوراثة العضوية ليست اختيارية لصاحب الحيوان المنوي والبويضة، لكن وراثة المملوكات إرادية بمعنى أن صاحب الملك هو الذي ينبغي مبدئيا أن يقسم تركته كما يريد.
والتشريع الديني والتشريع الوضعي يتدخلان لتحقيق شيء من العدل.
والسؤال الآن هو إذا كان هذا التدخل متعلقا بإرادة المالك للحد منها كما تفعل الشريعة والقانون الوضعي، فالأمر معقول بشرط ألا يلغي إرادة المالك صاحب التركة أولا، وبشرط ألا يصبح التدخل الثاني متنافيا مع التدخل الأول، لأن الدولة في هذه الحالة تتدخل في حق حرية المعتقد من أجل لاحق للوارث.
أي إنها تتدخل لتعطل حقا من حقوق الإنسان من أجل ما ليس حقا من حقوق الإنسان.
وطبعا سيقولون إن المساواة بين المواطنين حق من حقوق الإنسان.
وفي ذلك مغالطة.
فما هو حق في هذه الحالة هو المساواة في التعامل بين المواطنين وليس التسوية بين المواطنين وإلا لكان ينبغي أن يكون أجر الجميع واحدا.
المساواة بين المواطنين أمام القانون ليست التسوية بينهم بالقانون.
يمكن أن نسوي بين المرأة والرجل في الأجر لنفس العمل لأن الأجر في هذه الحالة هو مكافأة العمل الواحد والقانون يعاملهم بنفس المعايير الواحدة.
لكن الفرائض تتعلق بحق المالك في توزيع ماله بحسب معتقده.
ولا سلطان لأحد عليه.
وهذا يصح حتى في القانون الوضعي:
ففي فرنسا لا ترث الزوجة مثل الأبناء.
فلماذا لم يسو القانون الفرنسي بينها وبين الأبناء وبينهما وبين الآباء؟
يسوي بين الأبناء ذكورا وإناثا.
لكن إذا كان ذلك يتنافى مع حرية المعتقد، فكيف يمكن للدولة حتى العلمانية أن تتقدم تحكمها على معتقد الموروث؟
في الفرائض القرآنية وفي ما أضافته السنة (للحد من الوصية التي لم يحدها القرآن وقدمها على الورثة) توزع الورثة على:
1. صاحب التركة لسداد ديونه
2. الزوجة
3. الفروع
4. الأصول
5. الأقارب بحد معين (ويمكن أن نضيف عنصرا آخر وهو عندي غير ضروري لأنه من الرحم الكوني وهو إذن من الأقارب)
فالعنصر الذي يمكن أن نضيفه ويتعلق بمن حضر القسمة من غير الخمسة المذكورين، أعتبره من الأقارب بمقتضى الرحم الكوني كما تحدده الآية الأولى من النساء فيكون تابعا للأخوة الإنسانية (كلنا من نفس واحدة)، ومن ثم فالورثة خمسة أصناف أولها صاحب التركة نفسه لتسديد ديونه (الوصية خارج التوريث).
وقد لا يبقى بعد تسديد الديون شيئا، بل قد يصبح الورثة مطالبين بتسديد ديون الموروث خلقيا لا قانونيا إذا كان لم يترك شيئا أو كان ما تركه دون الديون.
والشرع حدد النسب فلماذا حصر الكلام في المساواة بين الأخ والأخت مثلا؟
أليس في ذلك تحكم لا علة له؟
وللشرع حكمة عميقة درستها سابقا.
فلأذكر بأهم مقوميها:
1. حتى بالنصف نرى الأسر من أجل المحافظة على الملكية تحول دون التزاوج الخارجي فتدمن على التزاوج الداخلي وهذا كما هو معلوم خطير عضويا.
2. لكن أحيانا إما تعنيس الأخت حتى لا تخرج الملكية أو حتى حرمانها من حقها بنوع من الإبتزاز العاطفي لتبجيل الأخت أخاها.
ولهذه العلة فالتقليل من سهم الأخت هو لفائدتها ولفائدة النوع.
فمن حيث فائدتها كلما كان القدر الذي يمكن أن تأخذه من الثروة العائلية قليلا كلما يسر ذلك عليها تجاوز العنوسة، إذ يتساهل أهلها على خروجها إذا لم يؤد ذلك إلى المس بالتركة.
ومن حيث الفائدة للنوع هو التزاوج الخارجي.
الغباء الذي يتكلم على المساواة يدعي أصحابه أنهم أعلم وأحكم من الله.
لم يروا أن الآية 11 من النساء تنتهي بهذين الصفتين من صفات الله.
ويتعلقان أولا بإشارة {أباؤهم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا} حتى لا يميزوا بين أبنائهم لهوى منهم وثانيا بحكمة مضاعفة: تيسير التزاوج الخارجي.