نور الدين الختروشي
على هامش خطاب الرئيس:
إقتراح رئيس الدولة بتخيير التونسيين بين الإحتكام للقانون الذي سيقترحه حول المساواة أو أحكام مجلة الأحوال الشخصية التي تحتكم إلى الشريعة في موضوع الإرث تقبله الرأي العام باستطراف ساخر ولم تتفاعل معه الأحزاب إلى حد كتابة هذه الأسطر.
التأويلات الأكثر تداولا للمطروح الرئاسي ركز على رغبة الباجي في أن يترك بصمته التاريخية على خطى الزعيم بورقيبه من جهة وعلى حرصه في مسك العصا من الوسط بالمناورة على رفض الرأي العام لما جاء في تقرير اللجنه والإستجابة لضغط الحركة النسوية المستقوية بامتداداتها في الخارج.
الأكيد أن هذه القراءات تحتوي على جانب من الحقيقة خاصة إذا استحضرنا السياق السياسي الهش بعيد أزمة الفصل 64 من وثيقة قرطاج 2.
ما أثار انتباهنا في مقترح الرئيس لا يتصل بالسياق السياسي العام والذي “أشبع” تحليلا. فالجديد الفارق الذي نتأوله من مقترح الرئيس في خطابه يوم 13 أوت بمناسبة عيد المرأة نقرأه في “الثورة التشريعية” التي أعلنها الباجي فهو ومن زاوية تاريخية بصدد الفطع مع مقدس “علمانية الدولة البورقيبية” التي كان أحد مؤسسيها أو وبالتدقيق بصدد القطيعة مع نموذج الدولة اليعقوبية الفرنسية التي أستلهمها بورقيبة في تأسيس النظام الجمهوري بعد الإستقلال.
مقترح التخيبر بين المرجعية القانونية والمرجعية الشرعية في مسألة الميراث تحيل في الذاكرة على نظام الملة العثماني السائد قبل الإستعمار الفرنسي والذي يعطي الحق للأقليات الدينية في الإحتكام لمدوناتهم التشريعية في موضوع الأحوال الشخصية.
فهو وبدون التسرع في الإستنتاج بأنه عودة بالنهاية للنظام الإسلامي الذي نشطت البورقيبية في محو أثاره إسما ورسما يتحرك على تخوم نظام الملة الإسلامي في هذه النقطة تحديدا.
الأكثر إثارة للدهشة والتفكير هو تقاطع فكرة التخيير مع فكرة أعمق تتصل بعلمانية الدولة ووحدة المنظومة التشريعية للدولة كما حرص النمط اللائكي الفرنسي على تجسيدها وأضحت من ثوابتها التاريخية التي لم تنجح المحاولات المتكررة منذ أن استوطنت الأجيال الجديدة من المهاجرين المسلمين والأسياويين وأبناءهم في العقود الأربعة الماضية وتعالي الأصوات بضرورة الإعتراف بحق الأقليات في الإحتكام لمرجعياتهم الدينية والثقافية في العناوين المتصلة بأحوالهم الشخصية على غرار النمط العلماني الانكلوسوكسوني المفتوح على الإعتراف بالخصوصية الدينية والثقافية.
النمط الفرنسي اليعقوبي يؤمن أن وحدة المنظومة التشريعية والقانونية من وحدة الدولة وأن المساس بعلوية وثبات قوانين الجمهورية تهديد للوحدة الوطنية وتفكيك لمقومات وجودها وفي مقابل الإعتراف بالتعدد الثقافي والديني في النموذج العلماني الإنجليزي استنبت الفرنسيون مفهوم الإندماج الذي هو بالنهاية إلزام لتلك الأقليات بالذوبان في النمط الثقافي الفرنسي.
العلمانية الفرنسية الحادة والمغلقة استدعتها البورقيبية بعد الإستقلال وأسست على منوالها معمودية النظام السياسي التونسي.
وكانت من أول تداعياتها إلغاء التعليم الزيتوني ومؤسسات الحبس ومجلة الأحوال الشخصية التي أدمج فيها بورقيبة أحكام الميراث الإسلامية أي بالنهاية جعلها جزءا من المدونة القانونية الوضعية القابلة للمراجعة في أي وقت ومتى دعت المصلحة أو الضرورة لذلك.
فبورقيبة بإدماج الأحكام الإسلامية المتعلقة بالميراث في الظاهر لم يصادم المرجعية الدينية وفي الباطن جوفها من بعدها الديني وأعاد نظمها في سياق قانوني وضعي وعلماني.
هنا تحديدا ينقلب الباجي على البورقيبية ويعلن نهايتها، فهو ومن خلال إقتراحه “الثوري” بتخيير التونسيين بين المرجعية الشرعية والوضعية “يخون” البورقيبية ويعيد للحيز الديني التشريعي شرعيته ومشروعيته في آن. فالشرعية تخلخل بقوة مبدأ الفصل الحدي بين الديني والزمني في كتابة العقد الإجتماعي المؤسس لدولة الإستقلال والمشروعية تعيد للشريعة موقعها الوظيفي في تنظيم وتقنين الحياة المدنية والعلاقات الإجتماعية.
الإعتراض الأساسي الذي قد يواجه تأويلنا هو القائل بأن الباجي في اقتراحه سيجعل من المساواة في الإرث هي الأصل في المنظومة القانونية الرسمية وتشريع الدولة، ويترك الإستثناء في اللجوء لمدونة الشريعة. وكان الأجدر بحساب أن الأغلبية الساحقة من التونسيين ستتمسك بالمدونة الإسلامية في أحكام الميراث، أن يبقي على أحكام الميراث الإسلامية، ويعطي للأقلية الحق في اعتماد القوانين التي ستتأسس على مبدأ المساواة.
الإعتراض يبدو في ظاهره وجيها، ولكن قراءة أكثر عمقا تحيل على أن هذه الصيغة هي الأفضل لأنصار اعتماد أحكام الشريعة لأنها تقطع الطريق أمام المطالبين بالمساواة ليواصلوا سعيهم وضغطهم من أجل تغيير القوانين الرسمية وتحرمهم من مساحة نضالية مربحة رمزيا وماديا خاصة في العلاقة مع الخارج.
السبسي بأقتراحه مبدأ التخيير يعلن نهاية وصاية الدولة على تأويل النص الديني، ويعيد للمسلم الحق في التأويل والإختيار بما يوافق عقيدته وقناعاته الشخصية.
الغريب هنا هو ما صدر من ردود أفعال سلبية على هذا المقترح من الرأي العام المحسوب على الإسلاميين، والذي إعتبر هذا إعتداء على دستور البلاد الذي ينصص في بنده الأول على أن الدولة دينها الإسلام.
ما يغيب على من يعتمد هذه الحجة لمعارضة مقترح الرئيس أن ذلك الفصل لا ينصص على إسلامية الدولة، بل على دين المواطنين التابعين للدولة. فالدولة -أي دولة- وإن كان لا بد لها من منظومة فيم تتأسس على قاعدتها أي إلى كلية رمزية متعالية وثابتة ومجمع على مرجعيتها -وهو جوهر الدين أي دين سماويا كان أو أرضيا- فإن ذلك لا يعني أن تعتمد الدولة الدين كشرعة ومرجع قانوني لإدارة الشأن العام. فالدولة كائن أصم وأعمى وبلا روح قوانينها تخضع “للعصبة” المتحكمة فيها سواء كانت بالغلبة أو بالإنتخاب فقوانين الدولة ليست سوى منتوج مهذب ومدني لموازين القوى داخل المجتمع ولموازين القوة الدولية، إذا كانت الدولة تابعة وغير مكتملة السيادة مثلما هي حال أغلب دولنا في العالم العربي الإسلامي.
لا أدري إن كان الرئيس يعي حجم التحول والثورة الفكرية والدستورية التي أحدثها بمقترحه. فقد كفن في خطابه يوم 13 أوت 2018 البورقيبية وأعلن موتها، تماما كما تجاوز نمط أو “صنم” اللائكية الفرنسية من خلال اقتراحه “ثنائية القوانين” فيما يتعلق بالإرث.
وهو ما يحدث لأول مرة منذ التنظيمات العثمانية. ولكن الأكيد أنه بصدد “زمن قانوني” وطني جديد، جوهره رفع وصاية الدولة على تأويل النص الديني والإعتراف بتعدد المرجعية القانونية في فلسفة وضع القوانين وهو ما يقترب من النموذج الانكلوسكسوني المتخفف من حضور الدولة ووصايتها القانونية على المجال العام عموما والحيز الشخصي خاصة.
الرئيس السبسي الذي وصل إلى الرئاسة بمعطف البورقيبية يمزق بقسوة ناعمة ذلك المعطف… وفي مكتب الزعيم نفسه.