لماذا الإرث بالذّات ؟
سامي براهم
لماذا لا تعترضون على إبطال العبوديّة و تعدّد الزّوجات وقد تعلٌقت بها نصوص صريحة ؟
لماذا تصرّون على قطعيّة الإرث دون كثير من المسائل التي تغيّرت مع تطوّر الواقع ؟
لماذا ترفضون المساواة بين الأخ وأخته في مال والديهما ؟
بأيّ حقّ يكون للأخ ضعف نصيب أخته وكلاهما مقبل على الحياة وتكاليفها ؟
لماذا هذه الأنانيّة والإستئثار والتمييز بين الأخ وأخته؟
لماذا تشيدون بالفهم المقاصدي وتحتفون بأعلامه تدريسا وتأليفا ولا تلتزمونه في تناول مسألة الإرث ؟
هذه بعض من الأسئلة التي تطرح هنا وهناك لا بصيغة الاستفهام فحسب بل كذلك بصيغة الإنكار و الإستنكار وتسفيه المقاربة التي يراد دحضها في سياق الجدل الذي أثير مؤخّرا.
لا نريد في هذه التّدوينة الإنخراط في سلوك مناكفات النّفي والإثبات، أو الدّحض والإنتصار لمقاربة تبدو لنا غير قابلة للتعقّل إلا في علاقتها بنصّ قطعيّ مقدّس لا يقبل إلا الإمتثال التّسليمي دون تعليل، لا نريد تبكيت أحد أو إفحامه أو رميه بحجّة دامغة، لا نريد دمغ أحد حتّى ولو كان دمغا مجازيّا، فقط نريد فتح آفاق للتمثّل الموضوعي للمسائل بعيدا عن الخلط والتلبيس.
كلّ دارسي الحضارة الإسلاميّة والمتخصّصين في تأويل النصّ المؤسّس لهذه الحضارة يعلمون أنّ هذا النصّ لم يؤسّس للإسترقاق ولم يشرّع له بل وجده سابقا وماثلا لحظة التنزيل، الجميع كذلك يعلم السّعي لتحرير العبيد وقصّة بلال الحبشي خير دليل على ذلك، ساوى الإسلام بين جميع البشر ورفض التمييز على أساس العرق واللون والشّكل والنّصوص في ذلك كثيرة، لكنّه تفاعل مع واقع تاريخيّ الرقّ فيه ممارسة متجذّرة، وكانت أشكال التّفاعل متعدّدة :
• الشكل الأخلاقي من خلال التّشجيع على عتق الرّقيق “فكّ الرّقبة” والتبشير بثوابه وأجره الأخروي.
• إدراج العتق في الكفّارات كشكل فقهي لفتح باب تحرير العبيد.
• إقرار نظام المكاتبة الذي يسمح للمُستَرَقّ عبدًا وأمةً بإمضاء عقد بينه وبين مالكه يتمّ بمقتضاه الخروج من ربقة العبوديّة مقابل عمل أو مهمّة أو مبلغ ماليّ متّفق عليه بينهما.
• إقرار مصرف في بيت المال موجّه لعتق الرّقاب.
• إقرار تشريعات تخصّ حسن معاملة الرّقيق الذين لا يزالون في وضع الإسترقاق ترتقي إلى درجة الحقوق والواجبات وإمكان التقاضي عند إنتهاك هذه الحقوق والإخلال بهذه الواجبات.
كلّ هذه المعطيات ماثلة في التّاريخ ومقرّرة في النّصّ المؤسّس والتجربة النبويّة، ولم تضمحلّ رغم إنحراف المسار التّاريخيّ عن اتّجاهها القائم على تضييق مداخل الإسترقاق وتوسيع مداخله إنطلاقا ممّا استقرّ لدى عموم الفقهاء من تشوّف الإسلام للحريّة، لذلك لم يُقَابَل إلغاء العبوديّة بحركة من الرّفض على أساس دينيّ أو اجتماعيّ أو اقتصاديّ.
لا يختلف الأمر كثير عن تعدّد الزوجات حيث تقتضي فلسفة الزّواج التي أقرّها النصّ والقائمة على السّكن والمودّة والرّحمة أن يكون الزّواج بين شريكين إثنين، ولم يذكر التعدّد إلا في سياق خاصّ في تركيب شرطي ” وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى…” فكان التعدّد حلا استثنائيّا لوضعيّة إجتماعيّة غير شائعة مع التنفير منها خشية الوقوع في الظّلم وكذلك مع إقرار عدم إمكان العدل بصيغة توكيد حاسمة “وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ…” لذلك قبل التشريع الإسلامي من المرأة أن تشترط في عقدها عدم التعدّد ولم يعتبره مخالفة للشّرع وإرادة الله، بل اعتبر التعدّد من المباحات التي يمكن تقييدها ومنتهى التقييد هو المنع، وعلى مستوى الممارسة الإجتماعيّة في البلد العربي الوحيد الذي قنّن المنع لم يكن التعدّد يتجاوز نسبه الواحد بالمائة، لذلك يُقَابَل منع التعدّد بحركة رفض على أساس دينيّ أو إجتماعي أو إقتصادي.
ونفس المنطق ينسحب على تنصيف شهادة المرأة والطلاق أمام القضاء والحدود وغيرها من المسائل التي نسخت بالنصّ ذاته أو طرأ عليها تجديد ينسجم مع روح النصّ ومقاصده.
فلماذا لا ينسحب نفس المنطق في النّظر والإستدلال على الإرث ؟
ألا يتشوّف الإسلام للمساواة التامّة بين الذّكور والإناث المشمولين بالتّركات ؟
لماذا تتوقّف المقاربة التٌاريخيّة والقراءة المقاصديّة عند قوله تعالى: “يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ ۖ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ”؟
لماذا لا يعتبر هذا النّصيب هو الحدّ الأدنى الذي لا يمكن النّزول عنه دون أن يمنع من تجاوزه ؟
لن نستدلّ في التّفاعل مع هذه الإستفهامات بقطعيّة الآيات المتعلّقة بالمواريث وعدم وجود قرائن تدرجها ضمن التأويليّة المقاصديّة، حيث لم يمنع ذلك الفقهاء من الإختلاف حول بعض مسائل الإرث تأويلا وتشريعا،
كلّ ما في الأمر وهو ما يجب أن يفهمه دعاة التّسوية الكاملة أنّ الإرث منظومة متكاملة تقوم على الموازنة بحسب معايير ليست دائما الذّكورة والأنوثة في حدّ ذاتها، لذلك لم يكن التفاوت في الأنصبة دائما في غير صالح الإناث بل إستفدن منه في حالات متعيّنة، كما ترتبط منظومة الإرث ببنية الأسرة والتشريعات التي تنظّمها إنفاقا وحضانة وحقوقا وواجبات…
لذلك من اعتبر أنّ الواقع الرّاهن للأسرة والمجتمع تغيّر بالشّكل النوعيّ الذي يقتضي تغيير بنية الأسرة والتّشريعات التي تنظّمها -وهذا يحتاج إقامة الدليل عليه من وجه علميّ لا ادّعائيّ- فليغيّر كامل المنظومة برمّتها ولا يكتفي بتعديلات جزئيّة تشوّش على هذه المنظومة وتربك نظام الأسرة.
أمّا اعتبار الإسلام دينا روحيّا خالصا وكلّ ما ورد فيه من أحكام وتشريعات وتصورات لتنظيم المجتمع والعلاقات العامّة والخاصّة هي تاريخيّة مقصورة على زمن التنزيل وبالتالية لاغية، فذلك ضرب من الكسل الذّهني والهروب من مواجهة مشكلات المعنى والتّأويل وقضايا الهويّة والحداثة المتلازمة ولا يمكن لأحد مكوناتها أن تلغي الأخرى إلا بمنطق في الفهم والتمثّل والتّأويل والتنزيل سليم ومعقول ومتقبّل إجتماعيّا، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.