مقالات

يقتلون الإمام الحسين ويسألون عن حكم قتل البعوضة في الحرمين !!!

بشير العبيدي
#أقولها_وأمضي
في باب الفهم ووضع الأمور في مواضعها، تعجبني جدا قصّة تروى عن عبد الله بن عمر حين أتاه رجل من أهل العراق في الحج، قال: يا أبا عبد الرحمن، ما حكم قتل البعوضة للمحرم؟ قال: ممّن أنت؟ قال: من أهل العراق ، قال: (قاتلكم الله يا أهل العراق ! لطّختم أصابعكم بدم الحسين ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وتسألون عن دم بعوضة)!
نعم، حين يختلّ الفهم، يقتلون الحسين ويسألون عن حكم قتل البعوضة في الحرمين !
ومثل هذا كثير جدّا أيّامنا هذه ! فلقد قرأت العجب من ردود عربيّة على تصريح الرّئيس التونسي حول اعتزامه تغيير قانون الميراث !
فلقد تحرّكت بعض الأقلام الأزهرية والخليجية لتلقّن التونسيين درساً دينيًّا في (تطبيق شرع الله)، ونفس تلك الأقلام لم تر شرع الله في سفك دماء المصريين وحرقهم في خيامهم وشوي لحومهم بالنار… لقد عميت القلوب والأبصار والبصائر أن ترى حرمة دم الإنسان وحرمة الظلم وحرمة التمثيل بالجثث، لا بل صرّح بعضهم قائلا (اضربوهم بالمليان)، وصرّح بعضهم (الجنود المصريون يتلقون الأوامر من عند الله)! ثم تمّ سحق كلّ صوت حرّ، وزجّ بالعلماء والفهماء والقادة الربانيين في سجون القهر والظلم وسفك الدماء والإعدام وقتل النفس من دون وجه حقّ … وجدران السجون المصرية والسورية والسعودية وغيرها لو يأذن لها خالق الجماد لتتكلّم بما تراه وتسمعه وتتألم منه جرّاء ما يحصل لخيرة نخب هذه الأمة ولما يقاسيه خيرة شبابها لتشقّقت الجبال والسدود ولنطق الحجر بما يبكي الشجر ! كلّ هذا وشرع الله -عند هؤلاء- مصون محفوظ مطبق محترم ما شاء الله، ويكفي تصريح رئيس تونس لكي تنفجر العيون أسفا على تطبيق شرع الله!! وفيما عدا ذلك، وكما يقول إخواننا المغاربة : (الدنيا هانية !)…
والنتيجة : البلدان الأشد عنفا وتسلطا وقهرا ضد شعوبها تريد أن تظهر بمظهر المحترم للشريعة والحريص على تطبيقها، وهو لعمري زيف وكذب وقلب للحقائق و”رهدنة” ما بعدها “رهدنة” !
كما أن بعض المدوّنين هنا وهناك، رفعوا سيف (شرع الله خطّ أحمر)، فقط بمناسبة تصريح رئيس تونس حول الميراث، فانهالت الأقلام في بكائية من المحيط إلى الخليج تنوح مصير (شرع الله المسكين)! وكأنّ شرع الله في بلاد العرب حقيقة معاشة ينقصها فقط تأديب رئيس تونس لكي نحسّ بأننا في مجتمع مسلم كما يحبّ الله ورسوله !!!
إنّ هذا الفهم، حين نقلّبه على وجوهه كلّها سنكتشف بسهولة أنّه فهم مقلوب ولا معنى له ! لأنّه يوحي -كذبا- لجموع الناس بفكرة مكذوبة خاطئة هي أننا نحترم حاليا شرع الله وما بقي سوى تلك المسألة التي أزعجتنا، هي نقطة المساس بالميراث !! إنها لصورة شكلية عبثية (لشرع الله) أن يعتني بمسألة جزئية ويجعل منها رأس الأمر، ويتناسى المعضلات الكبرى التي يشيّب لها الولدان.
إننا -معشر العرب والمسلمين في أغلب مجتمعاتنا- نعيش تحت رحمة الاستبداد البغيض بلا حرّية -جملة وتفصيلا- وهو أمر خارج تماما على منطق الشريعة منذ قرون بل هو عداء قبيح لروح الشريعة ونصوصها كلها، وخارج على منطق التاريخ الإنساني الذي يفرض أن تكون الإرادة للشعوب تختار ما يصلح بها. إن ثلاثة أرباع الوطن العربي تحكمه الْيَوْم أنظمة عسكرية مستبدة طاغية، مصالحها مرتبطة بالأعداء، وما بقي من أنظمة تدفع الجزية مقابل حمايتها من طرف جحافل الجيوش الأجنبية المرتزقة. إن الثروات الباطنية التي هي حقّ خالص للشعوب تستخرج الْيَوْم وتنفق في شراء الأسلحة لتدمير البلدان الإسلامية ذاتها وسحقها، وهذا أعظم ظلم لتطبيق الشريعة وأبشع صورة للحياة، فهل يا ترى، ستعود ثروات المسلمين للبناء وعمارة الأرض بمجرد تراجع رئيس تونس عن خزعبلاته؟!
الذي يريد تطبيق شرع الله بحقّ، عليه أن يراجع الأمور بمنظار مغاير تماما. لا يمكن وضع العربة في مقدّمة الثيران إذا أردنا أن تتجه الأمور الوجهة الصحيحة الثابتة. والدعوات الدينية التي تنطلق داخل المجتمعات العربية منادية بالويل والثبور هي نفس الدعوات التي تستغلها مخابرات الدول لصناعة الإرهاب وتسويقه وتخويف الناس به من الحرية ! وكلّ دعوة من هذا النوع ينبغي الاحتراز منها لأن التجارب المريرة أثبتت أنها المدخل رقم واحد لتفجير المجتمعات العربية والمسلمة من الداخل !
لا أقصد أبدا بكلامي هذا ألا نحتجّ على مزيد الانجراف نحو العبث حين يحصل ذلك، بل كنتُ من أشد المحتجين على ما يسمى تقرير الحريات في تونس. ولكن العنوان الصحيح للاحتجاج -وفق وجهة نظري الخاصة- ليس هو (شرع الله خطّ أحمر)، فهذا الشعار خطير جدّا لأنّه يخرج مسألة الحرية وحق الشعوب في تقرير مصيرها من دائرة (شرع الله خط أحمر)، وهذا سبب رئيس في نظري لانتصاب الظلم والجور في أوطان المسلمين منذ قرون ! إن هذا التجريد والتبسيط يجعل من قضية الحرية وقضية الإنسان وقضية إرادة الشعوب خارج منطق الشريعة، وهذا خطأ لأنه فصل مرفوض بين الشريعة والحياة والسبب الرئيس لانتشار العلمنة والدعشنة والطغيان في أوطاننا !
وفي كلمة : السياسيون العرب الْيَوْم ليسوا مطالبين بـ”تطبيق شرع الله في الميراث”، أو في هذا الجانب أو ذاك ! إنهم مطالبون بأعظم من ذلك بكثير : إنهاء الظلم والاستبداد والتمكين في أوطانهم للحرية ولإرادة الشعوب في اختيار نمط حياتها الذي يناسبها. ثم على الشعوب الواعية أن تتمّ المهمة وكسب #معركة_الوعي بجدارة : وهذا لعمري أعظم بند في تطبيق شرائع السماء على أهل الأرض، ومن دونه سيظل الحديث عن تطبيق الشريعة -في نظري- مجرد شكليات فولكلورية لا قيمة لها.
✍? #بشير_العبيدي | ذو الحجة 1439 | كَلِمةٌ تَدْفَعُ ألَمًا وكَلِمةٌ تَصْنَعُ أَمَلاً |

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock