أحمد الغيلوفي
ما يدفع للكتابة في هذه المسألة هو طرافتها النادرة، حد الإضحاك أحيانا: إنها تكشف لك أن المختلفين ظاهريا لا تفصلهما حيطان عالية وخطوط حمراء كما يدعيان، وإنما بينهما علاقات قربى لا واعية وتبادل عجيب في المواقف. في مسألة الحريات يكون الإسلامي ليبراليا في الإقتصاد، ماركسيا شيوعيا في الحريات الفردية، ويكون اليساري الماركسي شيوعيا في الإقتصاد، ليبراليا متطرفا في الحريات. ولله في خلقه شؤون.
أولا. من الخطأ الإعتقاد أن الخصومة حول الحريات الفردية لا تُطرحُ إلا في فضاء عربي إسلامي. هذا تبسيط وسوء نية: إنها موجودة في فرنسا وكندا والولايات المتحدة والصين وروسيا، لأسباب سوف نأتي عليها لاحقا. وليس السجال بين “جهلة” و”ظلامييون” من ناحية وعلماء وحداثيون من ناحية أخرى. إنه سجال فكري، وعلى مستوى رفيع بين فلاسفة كبار: ر.دواركين، بيرس اكرمان، جون راولس، من ناحية، والسادير ماكانتير، ميكايل صاندال وشارل تايلور، من ناحية أخرى. والحقيقة، وقبل الفريقين جميعا، كان ماركس في “المسألة اليهودية”. إنهما نظرتان للإنسان والمجتمع. الفردانية والجماعتية. نظرة ترى أن الحقوق والحريات يجب أن تُوضع ضمن “سياق” إجتماعي وثقافي، ونظرة ترى أن الفرد وحقوقه أسبق من المجتمع والثقافة الخصوصية (سوف نعود لهذه المسألة بالتفصيل) كيف نشأت الخصومة في القرن العشرين؟
1. الخيبات الكبرى
انبنى التفكير الليبرالي على مفاهيم ثلاثة: التقدم والعقل والفرد. إذا اتبع الفرد سلوكا عقلانيا (بحث عن مصلحته الخاصة) سوف يتقدم المجتمع وتتحقق السعادة للجميع. ما حدث هو العكس: فشل ذريع لايديولوجيا التقدم: الحرب العالمية الأولى والثانية، القنابل النويية، الأزمات الإقتصادية والمجاعات، والإنظمة الفاشية في بداية القرن العشرين. الاخطر من هذا فكرة “الحدود” التي فرضتها الايكولوجيا: الإنسان يعيش في سياق إيكولوجي سيدمره ويدمر نفسه إذا واصل البحث عن مصلحته الفردية والآنية. لأول مرة يعترف الفكر الليبرالي بوجود حدود متعالية على الفرد وعليه إحترامها لكي يواصل العيش.
2. أصل المشكل
تتأسس النظرية الليبرالية على فكرة الحقوق الذاتية، المؤسسة بدورها على انثروبولوجيا فردانية. “الليبرالية هي فردانية، والحرية التي تتحدث عنها هي حرية الفرد المعزول”. الفرد هو مرجع ذاته، مرجع ما يراه صالحا أو مُضرا. هنا تلتقي الليبرالية بالحداثة: الفرد هو مرجع العلم والأخلاق. هذه الفردانية تطرح نفسها أيضا كفردانية-كونية بفضل المصادرة القائلة بتساوي الحقوق بناء على تعريف مجرد للفرد: كل فرد هو فاعل أخلاقي مستقل، “مالك بشكل مطلق لقدراته” -ومنها جسده طبعا- والتي يستعملها لإشباع رغباته التي يختار هو بشكل حر إشباعها، من هنا علينا أن نفهم “لا خمار لا خموري” وحقوق المثليين. تقوم إذا الليبرالية على الفرضية التالية: الفرد المفصول عن الجماعة، وهو “كُل” مكتف بذاته، يبحث عن مراكمة مصالحه، متبعا خياراته الحرة والإرادية والعقلانية، بدون أن تكون هذه الأخيرة خاضعة لأي تأثير من السياق الأجتماعي.
من أين جاءت هذه الحقوق؟ من الطبيعة البشرية. لم يعطها للفرد لا المجتمع ولا الدين ولا الثقافة، لذلك هي “ما قبل سياسية”، بل من أجل الحفاظ عليها دخل الأفراد في المجتمع عبر العقد الإجتماعي. أي أن هذه الحقوق سابقة ومستقلة عن المجتمع، بل أن المجتمع مجرد أداة خارجية لتنفيذ الحقوق وإشباع الرغبات الفردية. ما هي نتائج هذه الفلسفة؟
• الإنتماء لا يُظيف شيئا للفرد ولا يجب أن يسلبه حقه في أن يوجه حياته كما يختار.
• ليس هناك تناظر بين الحقوق والواجبات: لأن حقوق الفرد طبيعية وسابقة عن المجتمع، ولأن المجتمع مجرد أداة لإشباع رغبات الفرد والمحافظة على حقوقه، فما يطلبه الفرد من المجتمع أكثر بكثير مما يقدمه له. ليس للرأسمالي أي واجبات تجاه الأفراد الفقراء.
• العادل سابق للخير: العادل هو ما يُطابق الحقوق الفردية النابعة عن الطبيعة. الخير هو ما تعتبره مجموعة ما أنه كذلك. ترفض الليبرالية فكرة الخير لأنها تتحكم في الفرد من أعلى وتحدد الحق الفردي، لذلك تجعل العادل سابقا للخير: الخير هو جملة الأشياء والسلوكات التي تحقق منفعة الفرد. منفعة الفرد كما يراها هو. وعندما يتناقض “العادل” مع الصالح العام؟ يجيب راولس “للعادل أسبقية مطلقة حتى عندما يتناقض مع الصالح العام” (نظرية العدالة).
• الدولة محايدة تجاه “الغايات”: لا تتدخل في أسلوب حياة الفرد وفي شكل ومفهوم السعادة التي إرتضاها لنفسه.
3. النقد الجماعاتي
قبلهم جميعا كان نقد ماركس في “المسألة اليهودية”. يسأل ماركس “حقوق من؟” فيجيب الليبرالي “حقوق الأنا”. إذا هناك “أنا” سابقة على الحقوق، أي وعي بالذات وبالحقوق، وهذا الوعي جاء عبر اللغة أي عبر السياق الإجتماعي، أي أن المجتمع سابق على هذه الأنا وهو من حددها وجعلها تتمثل حقوقها” ليس وعي الناس هو من يحدد وجودهم ولكن وجودهم…”. الوعي بالذات وتمثل الحقوق محكوم بسياق إجتماعي، لذلك سوف يكتب فيما بعد تايلور “منابع الذات”. مع فارق جوهري: ماركس يقسم المجتمع الرأسمالي إلي طبقتين فقط: البرجوازية والبروليتارية، والصراع الطبقي بينهما فقط حول ملكية وسائل الإنتاج. بالنسبة لماركس ليس هناك طبقة إسمها طبقة النساء في صراع مع طبقة الرجال، لذلك إصطدمت الحركة النسوية منذ الستينات بالعناد الماركسي. يرى انقلز في “أصل العائلة” أن البطريقية ستزول بزوال الملكية الخاصة، لذلك فالحركة النسوية حركة برجوازية لإلهاء البروليتارية عن حقيقة الصراع الطبقي. يجب أن يتحرر المجتمع حتى تتحرر المرأة والرجل معا.
• إذا كان الفرد سابقا للمجموعة فلماذا تحشر الرأسمالية أبناءها وتجعلهم يموتون “من أجل الأمة”؟ أية أمة؟ كيف يفسر إذا الليبرالية ضروب الإلتزامات: نحو العائلة، نحو الوطن، نحو الإنسانية؟
يلتقي الفكر الجماعاتي مع ماركس وانقلز كما يلتقي مع الهيرمينوطيقا وذلك في قولهم أن الوقائع الإجتماعية “مبنية” وفق عملية تأويلية: لا نستطيع أن نفصل بين تشكَل الهوية وبين السياق الإجتماعي والتاريخي، أي أن وعيي بذاتي وتمثلي للقيم “العادلة” ولضرب الحياة التي أريد إتباعها رهين بانتمائي لجماعة ما. إنه انطلاقا من “شكل حياة موجود” تتم إختياراتي، بما فيها الإختيارات المضادة لشكل الحياة الموجود. من نتائج هذا أن الخير سابق للعادل، والسياسي سابق للإقتصادي والجماعة سابقة للفرد، وأن الحرية محدودة بأفق إجتماعي وأن على الفرد أن يراعي الصالح العام والحس المشترك.
خلاصة: نلاحظ أن من يرفضون الفكر الليبرالي في مستواه الإقتصادي وفي نتائجه الإمبريالية يدافعون على نواته الصلبة ورأس حربته: الحرية الفردية المستقلة تماما عن السياق الإجتماعي، والذين يرفضون ماركس في معاداته للدين ويقبلون بالليبرالية في الإقتصاد يلتقون معا في رفضهم للحريات المنسلخة عن الجماعة. ربما يرجع هذا لأن الماركسية شكل أخير من أشكال الدين: للإنسان رسالة هي تأمين تواصل البشر على هذا الكوكب وذلك عبر نفي الظلم وتحقيق العدل. فقط عند ماركس يتحقق العدل عبر التخلص من الملكية الخاصة، بينما يتحقق العدل عند الأخرين بتطبيق الشريعة. الأول خلاصه دنيوي، والأخرون خلاصهم أخروي.