اليوم يوم رابعة !
عبد اللطيف علوي
لم يبق بعدها أبدا شيء كما كان
لا النّاس، ولا المكان ولا الأحزان، ولا الحياة ولا حتّى الموت…
لم نر قبلها حياة بكلّ ذلك الامتلاء واليقين والخشوع والجنون.
ولن نرى بعدها موتا بكلّ تلك العظمة والمرارة…
بعد رابعة خسرت كلّ أصدقائي..
القاتل تناسل وانتشر وحلّ في وجوه كثيرة، وأسماء كثيرة… كانت قريبة، أو حميمة، تشاركك قهوتك، وأيّامك، ومصباحك وزيتك…
من صفّق، ومن هتف، ومن سكت، ومن برّر، ومن تلعثم في ذلك اليوم.. قاتل، قاتل، قاتل.. حرام صحبته، حرام عشرته، حرام أن تشرب من مائه أو تأكل من طعامه، أو تمدّ له يدا، قبل أن يغسل قلبه ويتطهّر تماما من لعنة رابعة…
إيّاكم أن تصدّقوا أنّ هناك فرقا بين ما هو عامّ وما هو خاصّ.
هناك الكثير من الأيدي التي تصافحها كلّ يوم، لو تأمّلتها جيّدا، لرأيت دمك عليها، ساخنا.
لو كانت رابعة جريمة العسكر فقط، لهانت…
رابعة جريمة نفّذها العسكر، لكنّ من خلقها وخطّط لها وبرّر، وحضّر مسرح الجريمة وغسل الدّماء وأتلف الأدلّة وآوى المجرم… هو شعب، ومجتمع كامل، منذ عقود..
كتّاب ومفكّرون وفنّانون وإعلاميّون وسياسيون ومثقّفون ومتديّنون وعاهرات وعاهرون..
هناك حالة ثقافيّة وسياسية وذهنيّة كاملة، لدى جزء كبير من أبناء جلدتنا، أوصلتنا إلى رابعة.
هذه الحالة، مازالت قائمة، بكلّ شروطها، ومازالت تنذر دائما، بألف رابعة…
بعد رابعة تغيّر طعم كلّ شيء، ولون كلّ شيء، ومعنى كلّ شيء.
رابعة هي الحدّ الفاصل، بين أن تكون إنسانا… أو أن تكون شيئا آخر، مازال بلا تصنيف.
رابعة هي الميزان…
﴿وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ﴾
قرأت نصوصا لبعض المتحذلقين، يدين أصحابها مذبحة رابعة، ثمّ يتبعون ذلك بــ “ولكن …”
البعض يعتبر أنّ الشهداء الّذين سقطوا والآلاف الذين جرحوا وعشرات الآلاف الذين سجنوا وشرّدوا ، هم أيضا ضحيّة الإخوان ، لأنّهم غرّروا بهم وساقوهم إلى ذلك المصير كالخرفان…
هذا هو التّفكير بعقليّة السّيسي.
من كان فعلا يحترم الشّهداء، لا يصفهم بالقطيع ولا بالخرفان، هذا طعن ساقط في شهادتهم..
من يحترم إرادة الشعوب، سيفهم أنّها تختار حرّيتها وتقرّر مصيرها، وتختار أن تضحّي بما لا يستطيع البعض أن يستوعبه بعقله المشدود شدّا إلى دنياه، من يظنّ أنّ سلوك الإنسان يجب أن يكون بقائيّا، أو لا يكون…
من المعيب جدّا أن نستهين بتلك الآلاف المؤلّفة، بل بالملايين التي سطّرت ملحمة غير مسبوقة في تاريخ النضال السلميّ المدنيّ العربيّ، ونعتبرها قطعانا غرّر بها الإخوان أو الشيطان..
ولعلمكم، رابعة لم تكن كلّها من الإخوان، كان من مصلحة الانقلاب أن يصوّرها كذلك، لكي يعطي للمعركة التوصيف الذي يريد… رابعة وأخواتها، ضمّت كلّ أطياف الشعب المصريّ الرافض للانقلاب على الثورة، وإن بنسب متفاوتة بحكم جماهيرية الاخوان…
هذا يدخل في باب تجريم الضّحيّة، والبعض يقصد إليه قصدا، والبعض يقع فيه سهوا وهو يحسب أنّه ينسّب الأمور ويحلّل الأحداث بعقل بارد…
الناس حين يؤمنون بقضيّة إلى حدّ الاعتقاد (من العقيدة)… يضحّون طائعين ولا يفكّرون بنفس العقلية الميكيافيلية لسماسرة الوطنية، ولا يحسبون الداخل والخارج ولا ينتظرون تزكية من أحد..
الشّعوب تضحّي وتبذل الدّماء بلا حساب وتتجدّد وتضحّي مرّة أخرى إلى أن يحين أمر اللّه، الشّعوب لا يهمّها عدد الضّحايا، بقدر ما يهمّها أن تصنع قدرها ومصيرها، ولولا ذلك لما دفعت الجزائر مليون ونصف شهيد، ولما دفعت سوريا ما دفعت إلى اليوم، ومازالت…
الشهداء وحدهم يعرفون لماذا بذلوا أرواحهم، فلا تتكلّموا بأسمائهم، ولا تنتحلوا صفة المحامين عنهم، ولا تجعلوهم مجرّد ضحايا… سقطوا نتيجة الصدفة أو الغباء و “من يكرم الشّهيد.. يتبع خطاه”.
#عبد_اللطيف_علوي
الجريمة شنيعة وفظيعة… من صمت عنها قاتل… من صفّق لها قاتل… من بررالفعلة قاتل … كلّهم وحوش ضارية يعبّدون الطّريق للقاتل الإرهابي الأكبر ولأمثاله..