نور الدين الختروشي
تونس الثورة وما بعدها (ج 12):
إنتهينا في المقال السابق إلى مفارقة المقبولية لدى النهضة بين الخارج والداخل وبين الدولة ومجتمع النخبة فبقدر ما سجلت ديبلوماسيتها الحزبية نقاطا فارقة في سجل المقبولية الخارجية وفي مسار تصالحها مع الدولة فإنها عجزت على الحصول على نفس المقبولية في أوساط النخب السياسية التي أمعنت في عدائيتها الشرسة للنهضة حد المطالبة العلنية والمتكررة لاستئصالها وقد انعكس ذلك على المجتمع الحزبي الذي تبدو فيه النهصة بدون حليف جدي ولعل الحصاد المر لتجربتها التوافقية مع النداء تعبيرا عن حجم الرفض الانطولوجي المترسب عميقا في وعي ولاوعي النخب السياسية الفاعلة اليوم في المشهد.
ولعل ردود أفعال تلك النخب على مخرجات مؤتمرها العاشر يعكس بأمانة الدوغمائية الستاتيكية والجامدة لدى تلك النخب. ففي الوقت الذي وصلت ارتجاجات زلزال الفصل بين الدعوي والسياسي إلى أقاصي دوائر الإسلاميين الأممية. حتى أن بشير نافعه وهو أحد العقول الإسلامية المؤثرة في الإسلامية الحركية عموما وفي الدائرة الإخوانية خاصة ذهب إلى أن النهضة بصدد تمزيق عقدها العقائدي والفكري مع ثوابت الصحوة الإسلامية، في ذلك الوقت استقبل المعنيون من النخب الإعلامية والسياسية والثقافية “قصة الفصل” على أنها مجرد مناورة واحتيال على الذات والآخرين.
حاولت في سلسلة المقالات حول الموضوع أن أرصد الجذور الفكرية التي أسست لايديولوجيا النهضة وانتهينا في ذلك إلى حقيقة تعدد تلك المصادر والتي تشكلت في ديناميكية تطور وتأثر وتأثير طيلة العقود الأربعة من عمر حركة النهضة واستقرت على أربعة روافد أساسية وهي الإخواني والزيتوني على أرضية الأصالة والهوية والليبرالي واليساري على أرضية المعاصرة والغرب.
هذا ما يجعل في تقديري تأويل مخرجات المؤتمر العاشر في مسألة الحسم في المرجعية الإخوانية أو التنكر لها والتنصل منها بدون معنى أو بدون المعنى الكبير الذي ذهبت إليه جل المقاربات والقراءات “لقصة الفصل” بين الدعوي والسياسي. فتجاوز المرجعية الإخوانية في العديد من عناصرها المؤسسة بدأ مع الإحتكاك السجالي القوي والشرس مع اليسار الإسلامي الذي خرج من جبة الحركة معلنا ضرورة مغادرة الفضاء النظري التي أسس له البنا وقطب في المدرسة الإخوانية.
الجديد والذي يسترعي الإنتباه ويستفز التفكير ليس في تجاوز المرجعية الإخوانية فهي لم تكن في أي وقت دليل تفكر وإنتاج للمعاني بقدر ما كانت دليلا حركيا وتنظيميا وهو ما جعل إعلان تحول النهضة من حركة إلى حزب هو نفسه إعلان فك ارتباط النهضة مع ذلك الدليل فالحزب السياسي المفتوح لجميع المواطنين بالتحزب لممارسة حقهم وواجبهم في المشاركة في صنع المصير العام لم يعد بحاجة إلى الدليل الإخواني حركيا وتنظيميا أما حاجة الحزب إلى “ما قبلياته” الإيديولوجية فتكاد تكون منعدمة إلا في لحظات تصاعد الإنقسام الرأسي حول العناوين المتصلة بالهوية وهي إستثناء مسار التأسيس لعقد إجتماعي جديد من المفترض أن ينخفض مؤشر السجال حول الثوابت الوطنية لصالح الإهتمام بتحسين وتجويد نمط الحياة الإجتماعية.
الفصل أوله المتخوفون من ردة فعل داخلية على أنه مجزد فصل وظيفي هاجسه النجاعة، وأوله المتحمسون إلى ضرورة دفع الفصل إلى نهاياته على أنه قطيعة مرجعية مع المدرسة الإخوانية وتماس عاقل ومقصود مع رغبة العلمانية المعلنة في الفصل بين المقدس والزمني أو بين الديني والسياسي.
الرأي العام النهضوي اطمئن إلى أن سؤال الفصل بين الدعوي والسياسي غير منتج نظريا وقد يكون مفيدا إجرائيا ولذلك قبله وإن بحذر قلق. النهضة التي أعرفها في الثمانينات فصلت إجرائيا بين دوائر مناشطها وذهبت بعيدا في الجامعة مثلا في الفصل بين النقابي والسياسي وبدأت تتشكل دوائر للنشاط الثقافي على مسافة من التنظيم وعلى أرضية المشروع.، فبرزت مجموعات موسيقية وفرقا مسرحية تعمل في الفضاء الثقافي الوطني، وتتطور في تفاعل مع محيطها تأثيرا وتأثرا. واستقل العمل الدعوي والمسجدي بشيوخه ورموزه على مسافة معقولة من أجندة السياسي، وأذكر أنه وإن كان الإتجاه الغالب “للعقل التنظيمي” هو التوجس وعدم الإرتياح لمنازع الإستقلالية لمناشطنا عن الرقابة التنظيمية الصارمة، وهو مفهوم يومها بفعل السرية التي فرضت علينا لعقود، فإن منتصف الثمانينات شهد بداية الفصل الإجرائي والمنهجي بين السياسي والمدني، وككل البدايات تأسست على مؤشرات تطور، وليس على مقومات رؤية واضحة، وأرضية صلبه، والتي كان يمكن أن تتبلور قبل ثلاثة عقود من اللآن لو شهد مسار الحركة الإسلامية في تونس تطورا ذاتيا وطبيعيا مغايرا وبعيدا عن هاجس الإستئصال وغبار الحروب والمحن.
وحاصل المعنى هنا أن جديد المؤتمر العاشر إذا كان مداره ومنتهاه هو فكرة الفصل الوظيفي بين دوائر ومساحات المناشط المتفرعة عن مسالك المشروع فهذا ليس جديدا. الجديد الجالب لانتباه حاسة التفكير هو إندراج النهضة سياسيا في لحظة ما بعد حداثية جوهر إظافتها يتصل بتحول استراتيجي في معادلة القوة والسلطة من الدولة إلى السوق ومن السياسي إلى المدني.
كلما تقلص اهتمام الرأي العام بالسياسي (العام) كلما تعمق اهتمامه بالخاص أو هذا مما أفصحت عنه اللحظة المابعد حداثية أو المافوق ليبرالية في الحيز الغربي.
المجتمع المدني كمجال انتظام جمعي حول “الخاص”، وإلى جانب نجاعته الوظيفية المباشرة، لا يكف عن إنتاج أو إدارة كل المعاني التي تهم “الناس”، هذا في حين يخرج السياسي من دائرة إنتاج المعنى (الأحلام الكبرى)، ليكتفي بتحسين شروط الوجود الإجتماعي (الجسد).
الفصل بين الدعوي / الثقافي والسياسي في مخرجات مؤتمر النهضة ينتظم في قلب صيرورة ما بعد حداثية تتعلق بحقيقة وعمق هذا التحول في رهانات السلطة من السياسي إلى المدني.
الطريف على هوامش ردود الأفعال الداخلية في مسار تنزيل خيار الفصل بين الدعوي والسياسي أن الداعية الذي من المفترض أن يكون سعيدا وهو يغادر الحيز الحزبي إلى الفضاء المدني أو الأهلي على اعتباره مجال التأثير الأقوى في نصاب ديمقراطي سوي في الرأي العام وعموم الناس. الطريف ان جزء محترم من دعاة النهضة لم يستسيغوا “قصة الفصل” ورأوا فيها بدايات تنصل أنيق من الرسالة النبيلة التي اجتمع عليها النهضويون ذات يوم.
جريدة الرأي العام