في عيد ميلاده: هل كان الزعيم تونسيا ؟

أحمد الغيلوفي
كنت لا ازال مراهقا عندما قادتني اقداري الي “راس الجدير” ومنه الي الحدود الليبية. كان ذلك اول اسفاري، وطالما كنت أُعدُّ رحلتي تلك على انها اولى “ملاحمي” التي لا امل من سردها -مع كثير من التّصرّف- على اترابي من التلاميذ الذي كانوا يستمعون لي بافواه فاغرة، فاشعر بانني “مُهمّ”… لم تكن لي اي فكرة عن “الحدود” ولكن خيالي كان يرسم لها صورا اسطورية بحيث انها تمنع الناس من الخروج او الدخول بل لعلها تمنع حتى الطير..
المهم وصلت الي الديوانة التونسية وسلمت جواز سفري الي الضابط الذي نظر الي وجهي ثم نزل بعينيه الي قدمي.. فقلت في نفسي “لا شك انه استصغرني”. ثم فتح الجواز وطبع عليه بقوة وقال لي “اقصد ربي”. خرجت من عنده وانزويت قليلا لاقرا ما كتب فوجدت “خروج” فتنفست الصعداء وقلت في نفسي “لقد وافقوا على خروجي”. اما اين تلك الحدود الاسطورية حتى اعبرها واين هي ليبيا حتى اذهب اليها فتلك اسئلة علىّ ان انتظر احد المسافرين حتى اتبعه واجيب عنها.. وفعلا جاء احد المسافرين فتبعته وسرنا في ارض رملية منبسطة وسهلة ما يقارب المائة متر الي ان اعترضنا حائط بني بحجر ابيض صغير وارتفاعه لا يتعدى المتر.. تجاوزناه فوجدت نفسي امام اعلام حضراء ولافتات كتب عليها “البيت لساكنه” او “شركاء لا اجراء” وصور عملاقة للزعيم الليبي فعرفت اني دخلت ليبيا.. وعرفت ايضا ان ذلك الحائط هو “الحد”. اما كيف تكون الحدود بين الشعوب مجرد حيطان فتلك قصة اخرى.. لن اطيل عليكم اعرف ان الموضوع هو بورقيبة وعليّ ان ادخل فيه.. وصلت الي طرابلس وقادتني اقداري الي “جامع بورقيبة” ومن يومها وانا مهوس بسيرة الزعيم والمجاهد الاكبر ومحامي المحامين وصياد الصيادين… مالعلاقة بين بورقيبة وطرابلس حتى يكون له جامع فيها؟ ثم مالعلاقة بين من يحملون نفس اللقب في طرابلس ومصراطة والزعيم الاوحد؟ كيف يكون هؤلاء ليبيون وفي نفس الوقت لقبهم بورقيبة؟ تلك احجيات علي ان انتظر سنينا عددا حتي اجيب عنها…
… ثم طواني الدهر وشاعت مني في ابعاد العمر كل مهجة ودعاني الرحيل مرة اخرى فوجدت نفسي طالبا في باريس اقلب الكتب القديمة قرب نهر السّان… ووقعت عينايا على كتاب في جزئين على غلاف كل منهما صورة لبورقيبة بطربوشه الاحمر التركي وعيناه الزرقاوين. هو كتاب”لصوفي بسيس” و”سهير بالحسن” وسيرة ذاتية لبورقيبة فعاودني هوسي القديم واصبحت اشتري -رغم فقري- كل ما اصادفه حول بورقيبة.. ثم “جون لاكوتير” “خمس رجال وفرنسا” والصافي سعيد “بورقيبة”… واليكم خلاصة ما قرات حول “اصول الزعيم” و مُنشىء الامة التونسية ومالىء الدنيا وشاغل الناس.
كان جد “الزعيم” الحاج محمد بن علي والمُكنّى بـ”الاشقر” يسكن “حومة الطرابلسية” في المنستير. وهي “حومة عربي” ككل التجمعات السكنية التي تاسست في القرون الخوالي. وكان يتجمع بها خلق كثير من عرب وبربر ويهود… وقوم اخرين استقروا عليها تباعا وعبر السنين… ومنهم اولئك الذين قدموا مع الباي حمودة باشا عند عودته من سفره عبر ليبيا نحو تركيا حيث شارك في حرب القرم… الا ان ميلاد الحبيب بورقيبة لم يكن في حومة الطرابلسية وانما في حي “القرايعية” في المنزل الذي اكتراه ابوه قبل ميلاده بحوالي سبع سنوات. لماذا خرج الاب من دار الجد؟ الاجابة بسيطة. كما يخرج كل الابناء من دار ابائهم وخاصة عندما يكثر الابناء والاحفاد والسلفات والشجار اضافة الي ان “فطومة” بنت خفشة ام بورقيبة لم تكن لينة او مطيعة ككل النساء اللواتي كن ينجبن الذكور في تلك الفترة وربما كان الهروب من الشجار والهرج هو السبب الرئيسي الذي جعل الاب علي بن محمد بن علي الاشقر يغير من مقره ويغادر “حومة الطرابلسية”… على كل حال في يوم من ايام شهر اوت وفي سنة سنة 1901 وفي حومة “القرايعية” انجبت السيدة فطومة البالغة من العمر اربعين المولود ذي الشعر الاصفر والعينين الزرقاوين المسمى بورقيبة… هل كانت لتمر العديد من القرائن على ذهن المعي كذهن بورقيبة دون ان تحدث له حيرة وتبعثه الي التفكير والبحث؟ ماذا يعني ان يكون من “حومة” اسمها حومة “الطرابلسية”؟ واي معنى لعينيه الزرقاوين وسط قوم عرفوا بعيونهم السوداء؟ وهل من معنى للقب جده “الاشقر” وسط ارض لا تنبت الا الاجعد والاسمر؟ وماذا يعني ان توجد عائلة “بورقيبة” في كل من المنستير وجربة وطرابلس ومصراتة؟ثم ماذا يعني ان ينتهي هذا “الخط البورقيبي” في ميناء مصراته، ملجا الحائرين و المشرّدين والهاربين من ويلات الحروب التي شهدها البلقان في القرن الثامن عشر والقرن التاسع عشر؟…
ولقد قبض بورقيبة على نفسه ذات يوم وفي مدينة مصراطة وهو مورط في البحث عن جذوره. كان ذلك عندما كان يتابع رحلته الي المشرق في اربعينات القرن الماضي للتعريف “بالقضية التونسية”. هل كان ليبيا؟ ذلك ما لم ينكره قط ولم يتنكر له ابدا بل طالما ردده مرارا وتكرارا في تونس وطرابلس. ولكن هل كان حقا من ليبيا؟ ماذا لو كان “بورقيبة الاول” قادما من اوروبا الشرقية شانه شان “البوشناق” التي تعني بوضوح “البوسني”؟ فكلاهما نعتا وليس اسما. ربما يقودنا نعت “بورقيبة” الي خيط سري في اصول هذا الرجل اللغز. لنطرح هذا السوال: لماذا “بورقيبة” وليس “بو رقبة”؟. الاول فيه تصغير وتحقير والثاني مجرد نعت. نعرف ان هذه الصيغ التصغيرية-التحقيرية لا تطلق في الغالب الاعم الا على الوافدين لا على اهل البلاد. فمن لا ينتمي الي اي عرش او قبيلة يُطلق عليه نعتا انطلاقا من ابرز صفاته او عمله فنقول مثلا “قائد السبسي” او “صاحب الطابع” او “بو منيجل ” او بو رويس “او “بوكريشة” او … “بورقيبة” وهي عادة لا تزال موجودة في المناطق التي تكون فيها الروابط العشائرية والقبلية العامل المحدد في التعامل مع الاشخاص.
يدفعنا هذا التاويل الي القول بان عائلة بورقيبة هي عائلة وافدة على مصراطة ثم الي طرابلس ومنها الي جربة فالمنستير وليس في الامر اي غرابة فذلك شان سكان شواطىء المتوسط عبر العصور… فسكان حي “الجواريش” في “اسرائيل” هم من اصول ليبية من قبيلة ورفلة استقروا هناك منذ ما يزيد عن قرن هربا من بطش الطليان وهم يحلمون الان بالعودة.. كذلك كان المتوسط دائما: شواطىء تدفع وشواطىء تقبل على مر القرون. ولكن من اين يكون قد جاء جارنا المتوسطي؟ نجد في كتاب “صوفي بسيس” و “سهير بلحسن” ان جذور هذه العائلة من البانيا كما ان كلمة “بورقيبة” تعني بالالبانية “السجين” او الهارب من السجن. وفي هذه الحالة قد يكون معنى “بورقيبة” هو الهارب الذي عتق رقبته بالنزول في ديار الاسلام وبالدخول في دين الاسلام. غير ان الحكايات الشعبية التي يتوارثها اهالي مصراته تقول ان عائلة بورقيبة قدمت من سالونيك وهو ما يفسر لقب “الاشقر” الذي حمله جده اي الرجل الذي ينتمي الي الجالية الشقراء القادمة من فضاءات البلقان العثمانية. فاذا اضفنا الي هذا ان جدته “خدوجة مزالي” تنحدر من “سوس” المغربية وهو ما قاله بورقيبة في محاضراته امام طلبة معهد الصحافة وعلوم الاخبار فاننا نستطيع ان نقول دون مخاطرة كبيرة انه لم يكن من اصول تونسية لا من جهة الاب ولا من جهة الام. وعلى كل حال لقد كان بورقيبة على يقين من ان “هته العيون الزرقاء لا يمكن ان تنتمي الي عيون العرب السوداء”.
هل كان من الصدفة اذا ان يتصادم بورقيبة مع صالح بن يوسف بداية من اكتوبر 1955 يوم اعلن هذا الاخير ومن على منصة جامع الزيتونة ان “تونس جزء لا يتجزء من الامة العربية وهي كذلك جزء من الامة الاسلامية وان قدرها يملي عليها ان تقف الي جانب اشقائها في الجزائر” و “ان تحرير المغرب العربي عنصر مهم لتحرير الامة العربية”؟ وهل من الصدفة ان يناصب بورقيبة العداء لفكرة الامة العربية وللوحدة العربية؟ وهل من الصدفة ان يفصل تحرير تونس عن تحرير الجزائر والمغرب؟ وهل هي “عبقرية سياسية” ان يخطب في اريحا مناديا بالتقسيم؟ وهل من الصدفة ان يكون مُتيما بأتاتورك؟

Exit mobile version