الدولة الغاشمة أو اللادولة
كمال الشارني
رأيت مرة تحذيرا بلجيكيا على الحدود مع فرنسا: صورة عملاقة لعون مرور مع تعليق: “أنت لا تحتاج إلى حضوره البدني لكي تحترم قوانين المرور” ولم تعترضنا أية دورية أمن لا في الحدود ولا في الذهاب ولا في العودة، لكن نحن العرب، لا نعرف القانون إلا إذا كان مرفوقا بالقوة الغاشمة،
وقديما، في نظام الدولة الغاشمة، كان من حق عون الأمن أن يفرض عليك أن تجيبه “وين ماشي، وين كنت، شبيك لتوه ؟ شكون إلي معاك، شكون قال إلي هي مرتك؟ باهي معدي العسكر؟”، وقد تخضع لامتحان سياقة وفحص فني للسيارة في الطريق العام مثلا. الحقيقة أني رأيت أن الدولة العادلة أكثر شراسة وعنفا في مواجهة مخالفي القانون من الدولة الغاشمة التي تقسم المنحرفين إلى متاعها وغير متاعها ومن ذلك يتسرب كل أنواع الفساد والإرهاب، جرب أن تخالف القانون في سويسرا مثلا، ستأكل أصابعك ندما بقية عمرك، والسويسريون ليسوا وحدهم في هذا، الأمريكيون بنوا حضارتهم الحديثة على عدم الإفلات من العقاب، ما يزال من حق حاكم المدينة أن يسلح المواطنين لملاحقة المجرم في مسابقة حيا أو ميتا بمكافأة مالية: العدالة المتوحشة.
أما نحن، فحين أطحنا بالنظام، أطاح أحد الخبثاء في الأثناء بالدولة نفسها، وأصبحت لدينا قناعة أنه بإمكان أي أحد أن يفعل أي شيء، العدالة الرخوة، مثل أن يقترف أحدهم سبعين جريمة سلب ولا يتم إيقافه أو اعتراضه إلا صدفة أو أن يغور أحدهم (ثقافة الغارة) على شاطئ ويغلق الطريق إليه حتى يستجيبوا لشروطه، في أوقات الاكتئاب حين أحس حقا أن الدولة قد تخلت عنا للفوضى وسلطة الانحراف، أتذكر مقولة فلسفية ونحن في الثانوي، كنا نعالجها من باب التحدي والفكري: “ستون ليلة مع سلطان جائر خير من ليلة واحدة بلا سلطان”، مع تحذير مبدئي: إذا وقعت في تبرير طغيان الطاغية، فقد خرجت عن النص، هل علينا نحن العرب أن نعيد اختراع السلطة العادلة ؟