بشير العبيدي
#رقصة_اليراع
قادتني تصاريف الزّمان إلى التعرّف على أحد المخلوقات البشريّة العجيبة. أسمّيه “أبو سعديّة”، تيمّنًا بشخصيّة شعبيّة شهيرة في مخيال أهل تونس، وفي المغرب لها نظير طبق شخصية القناوة الذي نراهم في ياحة جامع الفناء في مراكش.
أبو سعديّة هذا شخصيّةٌ غريبة الأمر والأطوار. هو من أطيب النّاس معشرًا، شرط أن يقف معاشرهُ عند حدٍّ لا يجاوز الأكناف والحواشي والأطراف. ذلك لأن الغوص في عشرته ببلوغ الغاية منها هو عديل غوص القوائم في رخو الرمال أو هو من قبيل جنوح الدّواليب في أوحال وعر المسالك.
وأول ما يفاجئك في أبي سعديّة -إذا ما تقاطعت سكّتك يتعاريج متاهته- استقباله لك ببشر الغبّ العاشق، ووله المعتني الفائق، فيحيّيك بأقصى ما تحتمل لغة العرب من مفردات التّرحاب، وهو فوق ذلك يولّد الجديد الغريب من الأدعية ولطائف العبارات، ويدسّ فيها عبارت فرنسيّة، بعد أن يمضغها مضغًا بشدقه العربيّ. ثمّ هو بعدُ مبادرك حتمًا بعناق أشبه شيىء بوصل حبيبين، ومدثّرك بفتح الجناحين، مقبّلا لخدودك مثني وثلاث ورباع، ثم لا يرضي إلا أن يمسك بخُمس يمينك مسكًا لا تأمل بعد الإفلات.
وعلاوة على هذا البشر، فإنّ أبا سعديّة رجلٌ يُحِبُّ التّوافق والتّناغم. فتراه صوفيًّا مع الصّوفيّة، وعلمانيّا مع العلمانيّة، وسلفيّا مع السّلفيّة، وسافلاً مع السّفلة، وإخوانيٌّ مع الإخوان، وبلا ملّة مع من لا دين ولا ملّة له. وما رأيتُه يختلف عن أحد ممن يلاقيهم، إلا عن أهل النّفاق، فإنّك حين ترى أبا سعديّة مع من يشمّ عليه فسو النّفاق حسبته، لإتقانه التصنّع، من أهل الاستقامة ! ولقد انعكس الأمر على لباس صاحبنا، فمرّة يصادفني في ثوب عربيّ أصيل، متعطّرا بالعود، ومرّة أراه في بدلة باريسيّة متخنّقا بربطة عنق إيطاليّة مزركشة، وعليه طيب كريستيان ديور الفرنسيّ.
على أنّهُ شيءٌ وحيدٌ يكدّر مزاج أبي سعديّة ويقلب رأسهُ عقبًا: هو أن تطلبَ منه مالاً ولو كان على وجه السّلف، فإنّ الرّجلَ يصير غير الرّجلِ، فتعلو جبينَه سحابة الكدر، وتنتفخ أوداج وجهه الشّبيه بالزّكّار، وتضيق محاجر عينيه، وتنتصب شُعيرات لحيته الخفيفة انتصاب شوك القنفذ، ويطلق زفيرًا مخبرًا عن حسرة من لدغته الأيام، ثمّ لا تتمنّى من أبي سعديّة الأماني في كدره ذاك، إلا أمنية أن يعود إليه البشر، ولن يعود البشر حتى ينقلب السائل معطيا والمطلوب طالبا، والمتسلّفُ مسلّفًا. فلا شيء بلاش.
ومع ذلك، فإنّني كلّما جمعتني فرصة جديدة بأبي سعديّة في باريس، تراني أستبشر بلقائه لأنّني أجد دومًا مبتغاي : وهو أن ألاحظ وأصفَ الجمالَ الذي في ضعف البشر، ممّا لا يدركه من النّاس إلا من خبر خبايا النّفوس وعرف ما تصنع بضحاياها الفلوس !!!
إنّ التّجاهل مذموم في الجملة إلا في موضع طلب العافية، وليس من فراغ قول الحكيم العربيّ : تسعة أعشار العافية في التّغافل !!!
من كتاب : خواطر الأنفاق وبشائر الآفاق
#بشير_العبيدي ذو القعدة 1439 كَلِمةٌ تَدْفَعُ ألَمًا وكَلِمةٌ تَصْنَعُ أمَلًا
وأول ما يفاجئك في أبي سعديّة -إذا ما تقاطعت سكّتك يتعاريج متاهته- استقباله لك ببشر الغبّ العاشق، ووله المعتني الفائق، فيحيّيك بأقصى ما تحتمل لغة العرب من مفردات التّرحاب، وهو فوق ذلك يولّد الجديد الغريب من الأدعية ولطائف العبارات، ويدسّ فيها عبارت فرنسيّة، بعد أن يمضغها مضغًا بشدقه العربيّ. ثمّ هو بعدُ مبادرك حتمًا بعناق أشبه شيىء بوصل حبيبين، ومدثّرك بفتح الجناحين، مقبّلا لخدودك مثني وثلاث ورباع، ثم لا يرضي إلا أن يمسك بخُمس يمينك مسكًا لا تأمل بعد الإفلات.
وعلاوة على هذا البشر، فإنّ أبا سعديّة رجلٌ يُحِبُّ التّوافق والتّناغم. فتراه صوفيًّا مع الصّوفيّة، وعلمانيّا مع العلمانيّة، وسلفيّا مع السّلفيّة، وسافلاً مع السّفلة، وإخوانيٌّ مع الإخوان، وبلا ملّة مع من لا دين ولا ملّة له. وما رأيتُه يختلف عن أحد ممن يلاقيهم، إلا عن أهل النّفاق، فإنّك حين ترى أبا سعديّة مع من يشمّ عليه فسو النّفاق حسبته، لإتقانه التصنّع، من أهل الاستقامة ! ولقد انعكس الأمر على لباس صاحبنا، فمرّة يصادفني في ثوب عربيّ أصيل، متعطّرا بالعود، ومرّة أراه في بدلة باريسيّة متخنّقا بربطة عنق إيطاليّة مزركشة، وعليه طيب كريستيان ديور الفرنسيّ.
على أنّهُ شيءٌ وحيدٌ يكدّر مزاج أبي سعديّة ويقلب رأسهُ عقبًا: هو أن تطلبَ منه مالاً ولو كان على وجه السّلف، فإنّ الرّجلَ يصير غير الرّجلِ، فتعلو جبينَه سحابة الكدر، وتنتفخ أوداج وجهه الشّبيه بالزّكّار، وتضيق محاجر عينيه، وتنتصب شُعيرات لحيته الخفيفة انتصاب شوك القنفذ، ويطلق زفيرًا مخبرًا عن حسرة من لدغته الأيام، ثمّ لا تتمنّى من أبي سعديّة الأماني في كدره ذاك، إلا أمنية أن يعود إليه البشر، ولن يعود البشر حتى ينقلب السائل معطيا والمطلوب طالبا، والمتسلّفُ مسلّفًا. فلا شيء بلاش.
ومع ذلك، فإنّني كلّما جمعتني فرصة جديدة بأبي سعديّة في باريس، تراني أستبشر بلقائه لأنّني أجد دومًا مبتغاي : وهو أن ألاحظ وأصفَ الجمالَ الذي في ضعف البشر، ممّا لا يدركه من النّاس إلا من خبر خبايا النّفوس وعرف ما تصنع بضحاياها الفلوس !!!
إنّ التّجاهل مذموم في الجملة إلا في موضع طلب العافية، وليس من فراغ قول الحكيم العربيّ : تسعة أعشار العافية في التّغافل !!!
من كتاب : خواطر الأنفاق وبشائر الآفاق
#بشير_العبيدي ذو القعدة 1439 كَلِمةٌ تَدْفَعُ ألَمًا وكَلِمةٌ تَصْنَعُ أمَلًا