صرت أنسى كثيرا…

عبد اللطيف علوي
على أعتاب الخمسين، بدأت الحياة تأخذ شكلها الحقيقيّ والنّهائيّ: ثقب أسود ضخم يبتلع كلّ شيء، لا يقترب ولا يبتعد، يأتيه كلّ شيء وينزلق بكلّ صمت وهدوء في جوفه البارد المظلم، الأحلام الصّغيرة، والكبيرة، النّزوات والشّهوات السّرّية المكتومة، حكايات الطّفولة، حماقات الشّباب، الأحداث والشّخوص والأزمنة والأماكن، كلّ شيء، يأخذ مكانه النّهائيّ رويدا رويدا، وبلا ضجيج، في قاع النّسيان.
أنظر خلفي، فلا أرى سوى بقع من الزّيت العائم، في بحيرة كبيرة، لا تتجمّع، ولا تتلاشى تماما، حفنة من الماء، أو من الرّمل… حياتي، صرت أراها كصرّة جدّتي الفقيرة، كلّ ما فيها بطاقة التّعريف المهترئة، ودفتر العلاج القديم، ودريهمات شحيحة.
أصارع الوقت، وأسابقه كي أكتب أشياء كثيرة، قبل أن يبتلعها الثّقب الأسود، حياتي ليست تراجيديا، ولم يكن لها يوما ذلك الإيقاع الملحميّ، كان يكفيني فقط أن تنتبه إليها الطّيور وزهرات اللّيل الخجولة، لم أنجح غالبا في أن أجعلها كذلك، ولم أعد أطمع اليوم، في أكثر من أن أكتبها بشيء من التّفصيل… لن يكون من المنصف أبدا ألاّ يبقى منها سوى عناوين، وتواريخ، وأقوال وأفعال مرصوصة في قائمة طويلة، في انتظار العرض الأخير
الزّمن يعرف كيف يكسب الجولة تلو الجولة لصالحه، بكلّ مكر وبرود، يشدّني إلى كرسيّ أمام الشّاشة، مثلما تفعل الأمّ بطفلها الصّغير، يتركني أتابع الصّور والألوان والأصوات ذاهلا شاردا، لساعات وساعات، في حين يتفرّغ هو ليرتّب حياتي كما يشاء، يكنس ما تبعثر، يعلّق ما ابتلّ من الأحلام حتّى تنشف تماما، يجمع كلّ لعبي وأوجاعي وأشواقي وأشيائي الصّغيرة ويضعها في صندوق يغلقه بإحكام، ويقذفه أعلى الخزانة…
لم يعد الأمر يتعلّق فقط بالتّفاصيل الصّغيرة. في البداية كان الأمر كذلك، ثمّ صرت أنسى أحداثا كثيرة هامّة، ثمّ تلاشت حتّى المحطّات الكبرى في حياتي، صارت زوجتي تحدّثني عنها، كأنّني لم أعشها، أو كأنّها تحدّثني عن إنسان آخر، لم أصادفه يوما، أو عن حياة أخرى، مرّت بجانبي ولم أشعر بها…
بعد سنوات قليلة، لن يكون معي شيء كثير أتذكّره، سيكون كلّ شيء كأنّي لم أعشه، لن أتذكّر الّذين أحببتهم ولا الّذين كرهتهم، ولن أتذكّر لماذا كرهتهم، وهل كان عليّ فعلا أن أحبّهم… أتساءل: عمّ سأحاسب إذا كنت سأنسى تماما كلّ شيء؟ حياتي مثل سيجارة أدخّنها في الرّيح، أيّامها تتطاير كالرّماد وتتلاشى مع الدّخان، ولا أستشعر منها سوى تلك الجمرة، الّتي تتحوّل بعد ثوان بدورها إلى رماد ودخان…
زوجتي تنصحني كثيرا بأن أذهب إلى الطّبيب… يضحكني الأمر دائما بقدر ما يبكيني ويخيفني مجرّد التّفكير في ذلك. إذا التجأت إلى الطّبيب، فهذا يعني أنّني فقدت نهائيّا، ذلك الوهم الّذي أحتاجه، كي أقنع نفسي بأنّ كلّ شيء مازال على ما يرام!
الأطبّاء لا يملكون أن يعطونا نكهة الوقت، نحن ننسى لأنّنا نتعب من حمل الذّكريات، الأطبّاء يعالجون المرضى، وأنا لست مريضا، أنا فقط متعب وحزين. تثقلني الكلمات الخاسرة، وكثير من أشياء العمر المتفحّمة في زوايا الذّاكرة. أحيانا أغافل نفسي، وأفرغ نصف الحمولة في أيّة حفرة تعترضني وأمضي، ثمّ أفرغ نصفها الآخر غير بعيد، وأتظاهر بأنّني نسيت دون أن أشعر. نحن ننسى أحيانا بملء إرادتنا وبمحض اختيارنا…
أسوأ ما في الأمر، أنّني لم أعد أستطيع أن أميّز بين صور بناتي، في صغرهنّ، وأنا الّذي التقطتها لهنّ، وادّخرتها لمثل هذه الأيّام، كي لا يهزمني النّسيان. ربّما كنّ متشابهات في الصّغر، لكنّ هذا لا يهوّن من الأمر شيئا. صرت أخلط بين صور حنين ووعد وفيروز، فتسعفني زوجتي بنوع من الشّفقة والعتاب، ثمّ تستدرك بأنّ الجميع ينسون مثل هذه الأشياء، لكنّ الجرح يزداد اتّساعا كلّ يوم، ويمتلئ بالحصى…
ليس هيّنا أن تنسى أجمل ما عشت من اللّحظات، ولا حتّى أسوأها… حتّى ذكرياتنا الأليمة سنحتاج إليها يوما، ونحن نحاول أن نسدّ الثّقوب الكثيرة في سقف الذّاكرة، أو في قاعها، لا شيء يولد، ولا شيء يتحوّل… كلّ شيء يضيع!
لا أعرف إن كان عليّ أن أفرح، أو أحزن، وأنا أنسى كلّ شيء يوما بعد يوم، وأنا أمضي إلى ذلك الثّقب الأسود، وأقترب منه رويدا رويدا. ليس الأمر سيّئا بالكامل على ما أعتقد، سيكون بإمكاني في النّهاية أن أتخفّف من أعباء كثيرة كانت فوق الحمولة، تفاصيل كثيرة ظلّت تخزني دائما في القلب مثل مسامير صدئة، أحلام عظيمة تحوّلت إلى أوهام وخيبات، خيانات عابرة، أشخاص كثيرين تحوّلوا إلى أشباح وجماجم مفرغة وعناكب سوداء عشّشت في فمي وفي عينيّ وفي رئتيّ… قد لا يكون الأمر سيّئا بالكامل…
ما يحزنني قليلا، أنّني سوف أنسى الكثير من الحكايات الصّغيرة، الّتي كانت بحجم الحياة نفسها، تلك الحكايات الّتي لا تصلح للنّشر، ولن أتجرّأ يوما على كتابتها، قبل أن يبتلعها الثقب الأسود.
#عبد_اللطيف_علوي
(من رواية الثقب الأسود).

Exit mobile version