سفينة تونس هل تغرق ..
عبد اللطيف الفراتي
في غياب طبقة سياسية واعية
لك الله يا تونس
ما عسى المرء أن يقول أمام سوء نية طبقة سياسية لا تهمها مصلحة البلاد، لا تتمتع بأدنى قدر من المسؤولية، وهمها خصومة سياسية تبرز فقرها الذهني والتفكيري.
ترددت أياما لأتشجع وآخذ قلمي بين أصابعي، أو على الأصح لوحة مفاتيح الكومبيوتر، وشعور طاغ لدي بالغثيان باتت شاشات التلفزيون ساحة لنقاش بلا مستوى بين “كبار الدولة”، يوسف الشاهد، الذي أركبوه في رئاسة الحكومة وهو نكرة، جزاء له على ما قام به من دور لتتويج حافظ قائد السبسي الابن المدلل للرئيس السبسي في موقع لم يخلق له ولا له مؤهلاته، في موقع ناله بالانقلاب على القيادة الشرعية لنداء تونس، لا بقوة ذاتية أو كاريزما، وبقوة الدولة التي يرأسها أبوه، كما في الديكتاتوريات حيث حزب الدولة هو دولة الحزب، والذي استعمل شاشة القطاع العام (الشاهد) ليقول حقائق عن حليفه بالأمس، خصمه اليوم، ويحمله مسؤولية كل الفشل في الدولة وحزب الدولة، غير أن هذا الهجوم كان على ابن أبيه نجل رئيس الدولة، تأخر رد فعل رئيس الدولة الباجي قائد السبسي ولكن في “نسمة” القناة التي جندت نفسها لخدمة “حافظ”، وجاء الأب ليدافع عن الابن، الأحد الماضي في حوار لعله الأسوأ مهنيا مما رأيت في حياة صحفية طويلة، وعند إزالة المساحيق والمقدمات والمزينات، فإن ما يستنتجه المرء، أن رئيس الدولة تسنده عائلته، جاء فقط للدفاع عن ابنه الذي حول نداء تونس من صرح هوى للقاع، وبات مرادفا للفشل، جاء لينتصر لابنه أساسا مما بدا وأن الدولة هي مرادف لعائلة السبسي، وأن الأمر في تونس أصبح شديد الشبه بالأمر في كوريا الشمالية، توريث دفع البلاد إلى الهاوية.
من خلال الكلام المنمق يقف المرء عند أمرين اثنين:
• إرادة واضحة في تثبيت الإبن على رأس الحزب.
• دعوة رئيس الحكومة الذي نصب غصبا الإبن على رأس الحزب بدون وجه حق لأحد أمرين أيضا إما الاستقالة أو عرض نفسه على ثقة البرلمان.
وبذكائه الخارق وقدرته الكبيرة على المناورة، فإن رئيس الجمهورية قادر بهذه الصورة أو يظن نفسه قادرا، على الوصول إلى غرضه أي إسقاط الشاهد بالضربة القاضية، وغالبا فإنه يستطيع ذلك، ولكنه أيضا يدخل رهانا غير مأمون العواقب.
فلو رفض الشاهد وسيرفض قطعا الاستقالة، ولم تتوفر نسبة من التصويت في البرلمان لحجب الثقة عن الرجل، فسيجد السبسي الأب نفسه في موقف حرج، يبقى له أن يحل البرلمان ويدعو لانتخابات تشريعية جديدة قبل الأوان، وهو حل لا يريده، فنتائج الانتخابات البلدية التي قاد ابنه حزبه فيها إلى تقهقر غير مسبوق، تبدو وكأنها مذاق أولي لهزيمة منكرة في أي انتخابات مقبلة على مستقبل منظور، فلا حزبه أي نداء تونس مستعد لها، ولا ماكينته الانتخابية التي أنجحته فيها، أي رضا بالحاج ومحسن مرزوق يمكن أن يدفعاه للنجاح.
ولذلك فإن الباجي قائد السبسي يتهيب دخول تجربة انتخابية ليس واثقا من نتيجتها بل لعله واثق من نتيجتها العكسية، وبالتالي يبقى أمامه أحد حلين، إما أن يستقيل الشاهد الذي اعتبر في وقت من الأوقات ابنه الثاني، ولا يبدو مطلقا أنه ينوي الاستقالة، وإما أن يصوت البرلمان وهذه أيضا غير مؤكدة، ما دامت النهضة تطلب إبقاء الشاهد الذي باتت الجهات البرلمانية المؤيدة له تتسع رقعتها، ولذلك تبدو المغامرة غير سليمة العواقب، واستنتاجا فإن التهديد بنهاية الوفاق بين النهضة والنداء، ليست سوى ابتزازا للنهضة، وليست النهضة في وارد الاستجابة إليه، وهي في كل الأحوال لا تستعجل الأمور، والقناعة لديها أن الانتخابات المقبلة في ظل تمزق نداء تونس أربا إربا، ستمكنها من أغلبية ولو نسبية كبيرة، تؤهلها لتشكيل حكومة تكون لها فيها اليد الطولى، وإن اضطرت إلى توافق مثلما حصل بعد انتخابات 2011 بزعامة النهضة، أو 2014 بزعامة نداء تونس.
لكن هل في الوارد أن تتحدى النهضة رئيس الجمهورية للآخر، فلا تلجأ للتصويت ضد الشاهد، كل شيء وارد، وللنهضة حساباتها على المدى القصير، ولكن خاصة على المدى المتوسط والطويل.
الشاهد نفسه من جهته يجلس على كرسي هزاز، فإذا اشتد اهتزازه يخشى عليه من أن يقذفه، فالشاهد عندما أقدم على إقالة وزير الداخلية لطفي ابراهم، كان يعرف أنه لا يستطيع تعيين وزير مكانه يحتاج إلى ضمان أغلبية في البرلمان لتعيين خلفا له، وهذه الأغلبية (109 أصوات) غير مضمونة، كما إن توفر 109 أصوات لسحب الثقة منه لا يضمنها الباجي قائد السبسي، خصوصا في ظل انشقاق جديد لمن أسموا أنفسهم اللجنة السياسية بزعامة المقرب بين المقربين لحافظ قائد السبسي، سفيان طوبال الذي يبدو أنه قلب ظهر المجن لابن الرئيس فغادر ومجموعة مقربة منه السفينة قبل أن تغرق.
من هنا فإن التوازن غير المستقر كما يقول رجال الرياضيات قد حصل، فأنا لا أستطيع لك شيئا وأنت بالمقابل لا تستطيع لي شيئا، ولكن وإذ تبدو المعادلة بلا حل فهناك أمران اثنان يمكن أن يقلبا كل الاحتمالات :
أولهما تسجيل انسحابات بالجملة من قبل الوزراء الندائيين أو حتى غير الندائيين، فلا يمكن للشاهد أن يحكم بوزارة منقوصة، فيضطره الأمر للجوء للبرلمان، لطلب التصويت على الوزراء الجدد، للتعويض فلا يجد الأغلبية المطلوبة.
وثانيهما أن توازن “الرعب” القائم الآن يجعل البلاد غير محكومة وهي تعاني ما تعانيه من صعوبة، فيزداد الأمر سوءا
خصومة الشاهد-النهضة، السبسيان، ذات أثر بالغ على الحياة السياسية والاقتصادية الاجتماعية، فالدواليب كلها متوقفة، والوزراء في حيرة من أمرهم، هل يبقون أو يصرفون، وهذا الأمر هو الأكثر إضرارا بسير البلاد، وتنميتها ومشاريعها، والخصومات الشخصية التي تبعث على المسكنة، والانتشار الواسع لضعف روح المسؤولية في طبقة سياسية لا تتمتع بأي روح وطنية، كلها عناصر دافعة بالبلد ومستقبلها نحو هاوية سحيقة، واحتمالات كبيرة من قلة الاستقرار والاهتزاز.
كل ذلك ليس مهما في نظر طبقة سياسية رديئة، كل يحاول إنقاذ سفينته من الغرق، ولكن لا يهمه أن تغرق سفينة تونس.