سامي براهم
لم يحاول ضيّقو النّظر ومتجمّدو الفكر فهم هذا الحجم غير العادي من الاحتفاء النّهضويّ بفوز مرشّحتهم شيخةً لبلديّة الحاضرة لأوّل مرّة في تاريخ البلاد، فسّره كثير منهم بالنزعة التسويقيّة الدّعائيّة لحركة كانت ولا تزال متّهمة بمعاداة النساء والخطاب المزدوج في علاقة بحريّة المرأة والمساواة بينها وبين الرّجل، فكان هذا الفوز حسب هؤلاء بمثابة شهادة البراءة وصكّ الغفران النسويّ القابل للتوظيف الحزبي والانتخابي لاحقا مع تواصل قناعتهم بممارسة هذه الحركة للتقيّة وازدواجيّة الخطاب في رؤيتها للمشروع الوطني وحقوق النّساء.
قصر النّظر والعماء الأيديولوجي لم يمكّن هؤلاء من الإنتباه إلى ما وراء هذا الإحتفاء الرّمزي من ذاكرة نسويّة مثقلة بالإقصاء والإبعاد والقمع والترهيب والإنتهاك والتّدمير الماديّ والمعنوي:
”
• ما شمل الآلاف من نزع للخمار ومنع من الدّراسة والعمل والدّخول إلى المؤسّسات العموميّة حتّى الاستشفائيّة منها للعلاج والولادة بسبب ارتدائه،
• مداهمات للمنازل لاعتقال الآباء والأزواج والأبناء والإخوة وما صاحب ذلك من انتهاكات جسيمة لا تزال آثارها ماثلة إلى اليوم،
• التنكيل بهنّ وتشريدهنّ بين السّجون على امتداد البلاد للزيارة وحمل سلال الطعام لذويهنّ المساجين،
• حرمانهنّ من السند المعنوي والمادّي ومحاصرتهنّ في الرزق وتلقّي المعونة وإكراههنّ على التّطليق القسري،
• إبعادهنّ عن ذويهنّ وعائلاتهنّ بسبب ما وقع من تهجير ونفي قسريّ اضطراري على امتداد القارات،
• استهدافهنّ بشكل مباشر من خلال الاعتقال والسّجن والمراقبة الإداريّة وما روينه في إطار العدالة الانتقاليّة من قصص فضيعة ومؤلمة عن التعذيب والتحرّش والاغتصاب والتّدمير النّفسي والجسدي واليتم والترمّل والجوع والحرمان والتفقير،
حكايا مريرة لم تروى لأحداث ووقائع لا تزال قابعة في صندوق الذّاكرة يلفّها حاجز الصّمت الذي لم يكسره إلا مسار العدالة الانتقاليّة وجلساته السريّة التي باحت بأسرار آلاف النّساء المعذّبات من ضحايا الانتهاكات الجسيمة”.
بكلّ هذا الزّخم الحيّ النّابض من ذاكرة القمع ووعي القمع وجد هؤلاء النّساء في فوز إمرأة قريبة منهنّ اعترافا وتكريما وردّ اعتبار معنويّ لمعاناتهنّ، خاصّة مع ما تعرّضن له بعد الثّورة من تواصل التنكيل المعنوي والرّمزي والتحقير والوصم والسّخرية وعدم الاعتراف بنسويّتهنّ حتّى بعد أن أفرزت الانتخابات لأوّل مرّة في تاريخ تونس النيابي نائبة رئيس للمجلس التأسيسيّ من بين المنتميات لحركتهنّ التي رفع في وجهها لاحقا شعار “المرا التّونسيّة ما هيش محرزيّة”.
بل شكلن أغلبيّة نسائيّة داخل هذا المجلس في سابقة لم تحصل زمن الاستقلال حيث أقصيت النّساء بالإطلاق من الترشّح والتّرشيح للمجلس القومي التّأسيسي وحُرمن من المشاركة في صياغة أوّل دستور للبلد والمساهمة في بناء الدّولة رغم وجود حركة نسويّة فاعلة ساهمت في الحركة الوطنيّة ورغم وجود سيدات فاضلات متعلّمات وفاعلات في الشّأن المدني والسياسي طيلة فترة الاستعمار.
لكنّ الإرادة البورقيبيّة التي تبنّت شعار حريّة المرأة وقفت ضدّ التّمكين للنساء طيلة فترة الحكم البورقيبي ولم تقبل سوى بالحضور الديكوري لسمكات الز ينة في جوقة التشريفات ومنصّات الخطابة حول الزّعيم وفي احتفاليات ميلاده المجيد.
هكذا نفهم الزّغاريد التي امتزجت بالدّموع والهتافات المصاحبة لإعلان فوز مرشّحتهنّ “آهيّة آهيّة المرا التّونسيّة” حيث وجدن فيها العزاء والتكريم لما نالهنّ من ظلم وقهر وحقرة وعذاب وإقصاء واستبعاد.
كلّ هذا في غفلة من سادنات معبد الكهنوت النّسوي اللاتي أصبن بالخيبة والصّدمة وتحوّلت الكثير من تدويناتهنّ إلى ما يشبه لطميّات التنفيس عن المكبوتات المشحونة بثقافة التمييز والعنصريّة والأيديولوجيا النسويّة السكتريّة الضيّقة.
نساء النّهضة لسن خريجات مدارس الجندر والنّسويّة البوفواريّة الحديثة ولكنّهنّ نساء ولدن من رحم المعاناة ووعي المعاناة والنّسويّة الأفقيّة المتخرّجة من حراك الواقع الاجتماعيّ بتناقضاته وصراعاته وإكراهاته وثقافته الذكوريّة.
نساء النّهضة بكلّ ما لديهنّ من مواطن ضعف وقصور يشتركن فيها مع كثير من النساء اللاتي أقصين من الشّأن العامّ منذ الزّمن البورقيبي المتخم بخطاب النسويّة السلطوية هنّ سليلات النّضال النّسوي المجتمعي الميداني، شقائق الرّجال وأخوات كلّ من ينشدن الخير لهذا البلد.