الدّرس الكرواتي

صالح التيزاوي
كرواتيا، ذلك البلد الصّغير في مساحته والقليل في عدد سكّانه والحديث في استقلاله (استقلّ عن يوغسلافيا عام 1991). شدّ هذه الأيّام أنظار العالم إليه بأمرين اثنين:
1. صعود منتخبه في كرة القدم إلى الدّور النّهائي لأوّل مرّة في تاريخه وهو مالم يحدث لأيّ من الدّول العربيّة رغم مرور أكثر من نصف قرن على آخرها استقلالا عن الإستعمار المباشر، حتّى وإن كان ذلك من النّاحية الصّوريّة.
2. لفتت كرواتيا أنظار العالم أليها برئيستها الشّابّة وهي تشارك جماهير بلادها الفرحة بالإنتصارات المتتالية لمنتخب بلادهم دون حواجز ودون بهرج أمني يصل إلى حدّ التّخويف كما يفعل حكّام العرب، فكانت بسيطة جدّا، متواضعة جدّا، مشرقة جدّا، لأنّها عدلت فأمنت. فمن من حكّام العرب يستطيع أن يفعل مثلها ويلتحم بالجماهير في مباراة رياضيّة حتّى داخل البلاد؟ لا يقدرون على شيء من ذلك لأنّهم خرّبوا العلاقة بشعوبهم وجعلوها علاقة تسلّطيّة قهريّة، فحرموا لذّة الشّعور بالأمن وحرموا شعوبهم نعمة الحرّية فأضحت حياة الشعوب العربيّة ضنكا وحياة الحكّام ترفا وفسادا وأصبحت احتمالات الإنفجار أكبر من احتمال الإستقرار رغم استنجاد حكّام العرب (آل سعود وآل زايد) بكلً شياطين الأرض ودفع الجزية للأمريكان مقابل حمايتهم من شعوبهم ومن أجوارهم ومن عدوى الحرّيّة والثّورة.
صعود كرواتيا للدّور النّهائي وسلوك رئيستها سيكون لهما الأثر الإيجابي على السّياحة في كرواتيا في قادم الأيّام، وسيعزّز مكانتها كوجهة سياحيّة الأكثر شعبيّة في العالم بفضل المونديال الذي تألّق فيه منتخب كرواتيا. كرواتيا لا تملك ثروات نفطيّة هائلة ولا غازا مثل السّعوديّة أو قطر أو الإمارات أو ليبيا ولاتملك تعدادا للسّكّان تجاوز المئة مليون كما في مصر ولا تستند إلى ستّين عاما حداثة وثلاثة آلاف عام حضارة مثل تونس ورغم ذلك صعدت إلى الدّور النّهائي وفرضت احترام العالم كلّه لها.
فما سرّ المعجزة الكرواتيّة وما أسباب الخيبات العربيّة؟
منذ استقلالها عن جمهوريّة يوغسلافيا وخروجها من الحرب الأهليّة أخذت كرواتيا بالتّجربة الدّيمقراطيّة لتتلاءم مع محيطها الأروبّي فيما أمسك حكّام العرب منذ نشأة ما يسمّى بالدّولة الوطنيّة أمسكوا بالإستبداد حتّى جعلوا منه “خصوصيّة عربيّة” وأصبحوا أحاديث العالم في الإستبداد وموضوعا للسّخرية والإحتقار. اتّجهت كرواتيا الحديثة إلى الإستثمار في قطاع الخدمات وفي الزّراعة وفي البنية التّحتيّة لجلب الإستثمار الخارجي وأمسكت الدّولة بجزء هام من القطاع العام خاصّة في الصّحّة وفي التّعليم لتضمن الشّروط الدّنيا للكرامة البشريّة وللمساواة والعدالة بين مواطنيها حتّى أصبحت تحتلّ مراتب عالية في أروبا من حيث الرّعاية الصّحّيّة وجودة التّعليم فارتفع متوسّط العمر وتراجعت الأمّيّة إلى أقلّ من 2% بينما العرب (أمّة القراءة والكتابة) يقبعون في ذيل القافلة البشريّة من حيث عدد العاطلين عن العمل ومن حيث الأمّيّة ومن حيث الرّعاية الصّحّيّة إلى جانب الغياب التّامّ للحقوق والحرّيّات والمتّهم الرّئيسي في ذلك: أنظمة الإستبداد العربيّة. كرواتيا فرضت نفسها في العالم كاقتصاد ناشئ بفضل حكمة ساستها وإيمانهم بوطنهم وباستقلال قراره.
وممّا يحسب للرّئيسة الشّابّة أنّها أدارت ظهرها لسياسة الإقتراض والإرتهان للمؤسّسات العالميّة المانحة واتّجهت لشعبها معلنة أنّها لن تغرق البلاد في الدّيون حتّى وإن جاع الجميع وهي في مقدّمة شعبها. بينما نحن في تونس وبعد ثورة الحرّيّة والكرامة عطّلنا إنتاج الفسفاط لأكثر من خمس سنوات وألجأنا الدّولة إلى التّداين الخارجي. ثمّ لا يستحي قطّاع الطّرق ممّن تسبّبوا في تلك الوضعيّة الكارثيّة أن يتباكوا على الوضعيّة المأساويّة التي انحدر إليها الإقتصاد وعلى خضوع الحكومات المتعاقبة لأملاءات مؤسّسات النّهب العالميّة ويعلنون المناحات على ضياع استقلال قرار البلاد وارتهانها للخارج وهم سبب كلّ المآسي.
خلاصة القول: العقول المبدعة والحكيمة هي التي تصنع الثّروة وتبدع الحضارة وتحقّق الإنتصارات في الرّياضة كما في الإقتصاد، أمّا العقول المستبدّة والسّفيهة فإنّها تبدّد الثّروة مهما كان حجمها ولا تنتج إلّا التّخلّف ولا تأتي إلّا بالهزائم والنّكبات.

Exit mobile version