أردوغان مرة أخرى هو معاوية الثاني
أبو يعرب المرزوقي
ضحك الكثير من قولي إن أردوغان معاوية ثان. وأضحك أكثر منهم عندما يقولون إنه متأثر بفكر الإسلاميين العرب. فبين فكر الرجل وفكر الإسلاميين العرب ما بين الثرى والثريا. مثل معاوية تظاهر بمحالفة بيزنطة وسلبها وأتم سلبها من كل مستعمراتها من الشام إلى الأندلس. ولا علاقة له بفتاوى القرون الوسطى.
لم يقل كلمة واحدة في أتاتورك بل أبقى له كل الإحترام ونزع بالتدريج كل ما يعتبره أفقد تركيا من مجالها الحيوي فأرجعها بالتدريج إلى دور الآصرتين اللتين ستجعلان تركيا من أعظم دول المستقبل في العالم: الآصرة الإثنية لجمع كل أتراك العالم والآصرة الإسلامية للحاجة إلى إحياء الطموح التاريخي.
تحرر من أحوال النفس من الحقد لعلل شخصية أو حتى لخلاف سياسي عميق بل سعى إلى توحيد شعبه لئلا يجعل استعادة الماضي البعيد حربا على الماضي القريب فأبقى لرموز الثاني ما تستحق من الإحترام توحيدا لشعبه وسعى إلى إحياء رموز الماضي الأول بنفس روحي ولطافة في الإستعادة دون استفزاز.
ولما توفرت له فرصة كتابة دستور جديد لجمهورية ثانية لم يفكر في مصلحة حزبية ولا في مصلحة شخصية بل كان همه تيسير قابلية الحكم الفعال والقادر على الإنجاز السريع فأخرج بلاده من أبشع دستور على الإطلاق أي الدستور البرلماني الذي لا يحقق الديموقراطية بل البيروقراطية والشلل السياسي.
ولم يكلف أميين يتعلمون الحجامة في رؤوس اليتامى للجدل حول شكليات الكل يعلم أنها غير قابلة للتطبيق في مجتمع ليس له تقاليد ديموقراطية ولا خاصة أخلاق مدنية تمكن حكمها من السيطرة على الصراعات والمزايدات السياسوية التي تصيب الدولة بالشلل وتكثر التدخلات الأجنبية في بلده كـ”قطعة جبن”.
كل ما جرى في تونس بعد الثورة منافي تماما لما يجري في تركيا. لكأن النخبة السياسية في تونس التي وفر لها الله فرصة إنقاذها قد سعت لعدم الوعي والخبرة السياسية والمعرفة بمنطق القانون الدستوري وشروط قابلية الحكم الديموقراطي الفعال قد عبدوا الطريق للتأزم الدائم الموصل إلى الحل الانقلابي.
والكل يعلم -والتسجيلات موجودة في مركز التميمي وفي الجزيرة- أني قد نبهت إلى هذه الأدواء وأخطارها وتصورت أن كتابة الدساتير في العالم كله لا تقع بطريقة الخواطر العفوية بل هي فن أساسه معرفة “روح” الشعب الذي يراد تنظيم إرادته بصورة تجعل الحكم أداة التغيير السريع والعادل وتجنب الأزمات.
وأن ذلك يقتضي قلب صفحة الماضي بسرعة ووضع مشروعات تجمع ولا تفرق باستراتيجية طويلة النفس وبعيدة الأغوار لأن من يريد تعويض نظام بنظام مقابل له تماما لا بد وأن يكون من أجهل خلق الله بسنن التغيير السلمي. وحتى لو كنا ستالينيين وليس بيد خصومنا كل أدوات الفعل السياسي والإجرامي لفهمت.
ولو كنا نفهم أن الكثير من الأفكار التي كان خصومنا يدعون إليها أقرب إلى الإسلام من الأفكار التي أعادها فقهاء القرون الوسطى ليجعلوها من أهداف الثورة وهي في الحقيقة من تقاليد نكوص المسلمين إلى الجاهلية سواء في مستوى الحقوق المدنية أو الواجبات الروحية وطبيعة الخلافات القيمية.
وختاما كتبت هذه التغريدات القليلة تحية لما قام به أردوغان وتكذيبا لنسبة فكره للإخوان أو لعلاقته بفكر أي من العرب لأن الفكر الإستراتيجي لبناء الأمجاد لا علاقة له بالإفتاء لإرضاء الأوغاد. الفكر الإستراتيجي ليس فتاوى ولا حلول ظرفية بل هو رؤية لمنزلة أمة وقدرتها في النظام العالمي.
فإحياء الآصرة الإثنية يعني أن الأتراك سيصبحون من حيث العديد مثل الهنود المسلمين ومثل سكان بلدان الجامعة العربية ومثل المالاويين حتى وإن بقيت دولهم متعددة وهذا يمكن أن يعد لكونفدرالية تركية كبرى تجمع تركيا وكل ما افتكته روسيا القيصرية من الخلافة العثمانية وهي غاية إستراتيجية متوقعة.
وإحياء الآصرة الإسلامية رغم عداوة الأنظمة العربية العميلة لم يكن قصد صاحبها بها التوجه للأنظمة بل للشعوب. فالأنظمة يحكمها حمير لا يعلمون أن الشعوب وخاصة الشباب بجنسيه له طموح كوني لأن روح التاريخ الإسلامي مازالت هي المحرك الحقيقي لوجدانه ولوعيه بعلل ما تعيشه الأمة من استباحة.
ولولا علم أعداء تركيا في الغرب بهذين الهدفين الإستراتيجيين لما يجري حاليا في تركيا لما اهتموا كثيرا به ولاعتبروا تركيا حتى لو صارت من العشرة الكبار تبقى دولة عادية لن تكون أقوى من فرنسا أو من ألمانيا أو من إنجلترا ومن ثم فهي من حجم مقبول لا يثير الإنتباه.
وحكام العرب الذين أنجبتهم مذلة سايكس بيكو ونصبهم الإستعمار الفرنسي والإنجليزي فقدوا الكرامة والشهامة والطموح التاريخي ولذلك فلا أحد يحتقرهم أكثر من شبابهم الذي يعلم عزة المسلمين كيف كانت ويرى كيف يسترد الأوروبيون عزتهم بالوحدة لكنهم يحاربون من لو حالفوه لنالوا احترام الأعداء.
هذه شهادة أقولها للتاريخ. ليس لأردوغان أدنى صلة بالإسلاميين العرب ولا بالحداثيين العرب. هو رجل مؤمن بشعبه التركي الأوسع ومؤمن بأمته الإسلامية الأوسع حتى يحصل ما في الأذهان في الأعيان -أهم علل الإسلاموفوبيا هو الوعي بضرورة الإستئناف- وهم كافرون بكل ذلك كعبيد ربوا على الذل.