برنار لويس ليس مسؤولا عن تفتيت دار الإسلام
أبو يعرب المرزوقي
رغم علمي بفكر برنار لويس فإني لا أتهمه بشيء لأن التفتيت الذي يدعو إليه والاستعمال الذكي للطائفية والعرقية متقدم على وجوده وعلى فكره والمسؤول فيه قبله هو من يتجاهل التاريخ بخصوص هذا الاستعمال ومن تبنى نظرة الدولة القومية بخصوص التفتيت الجغرافي والتاريخي.
كل ما في الامر هو أنه جعل ذلك استراتيجية نسقية واصلتها الولايات المتحدة وتريد أن تعيد هندسة المحميات التي وطدها الاستعمار غير المباشر بأدوات محلية هي من اختارهم ليكونوا أوصياءه على المحميات حتى يحققوا ما تعذر عليه تحقيقه بأن يحاولوا إضفاء الشرعية التاريخية عليها بتمزيق التاريخ.
وهذه الاستراتيجية مضاعفة:
1. أحياء حزازات الماضي التي تجاوزها الإسلام عندما أسس دولة كونية متعددة القوميات والأديان والطوائف أو الفرق الدينية (دون طائفية).
2. استعمال نفس الأعداء الذين كانت لهم دول سابقة على الاسلام ونفس التراث الذي تجاوزه الإسلام بتوحيد الأمة على قيم كونية مشتركة.
فاستعمال أمريكا لذراعيها إيران وإسرائيل واستعمالها الأنظمة المحميات التي أنشأتها بريطانيا وفرنسا (سايكس بيكو مثلا) وجعلت ما بينها من حدود حديدية وإنشاء كل محميات الخليج وتلغيم كل هذه المحميات العربية من الماء إلى الماء بنزاعات قومية وقبلية وطائفية وخاصة حدودية أمور معلومة.
والذنب ذنبنا وليس ذنب برنار لويس. وهو ذنبنا مرتين:
1. أولا تجاهلنا أن هذه الآفات دبت منذ القديم وهي من علل الانحطاط لأن التفتيت نتج عن ضعف الدولة المركزية وتحول كل ولاية إلى سلطنة.
2. وثانيا كل المحميات الحديثة لها بنحو ما أصل فيها والجديد هو محاولة إلحاق التاريخ بالجغرافيا.
فلا فرق عندي بين الأمراء الذين انفصلوا بإماراتهم عن الخلافة فصاروا سلاطين ودويلات تتناحر على أرض الخلافة وبين ما طبقه الاستعمار غير المباشر بمن عينهم ولاة عنده إلا بشيء واحد: فهؤلاء أكثر خيانة للأمة من أولئك لأن السلاطين لم يفتتوا التاريخ الإسلامي الواحد لشرعنة تفتيت الجغرافيا.
فلا أحد من السلاطين تبنى فكر الدولة القومية أو العرقية -على الأقل علنا حتى لا أنسى المحاولات الانتقامية من الباطنية والفرس- بل كلهم كانوا يؤمنون بوحدة التاريخ الإسلامي بل وأكثر من ذلك ولو لأسباب سياسية دنيوية خالصة كانوا يسعون لتوحيد الجغرافيا طموحا في الاستحواذ على الدولة الكبرى.
ذلك أن مجرد تبني فكرة الدولة القومية تفتيت مضاعفة: هو تفتيت أكبر وتفتيت أصغر. فالأكبر هو تفتيت الجغرافيا الكلية للأمة بإخراج قوم منها ليصبح “أمة” والأصغر هو إيجاد طموح لدى القوميات الأخرى حتى لو كانت أقليات لإنشاء دولة قومية فيفتتون ما تصوره دولته القومية.
فما من قومية في بلاد الإسلام بحائزة على مكان من داره وحدها دون ان تكون معها قوميات أخرى لأن الإسلام لم يكن نظامه مبنيا على القوميات بل على الانتساب إلى الإسلام فحسب. فجميع الدول الأمازيغية مثلا لم تكن تسمى نفسها أمازيغية بل كانت دولا وأحيانا خلافة إسلامية قامت بواجب حماية البيضة.
وحتى الدول التي أنشأتها الباطية في المشرق أو في المغرب فإنها لم تكن تمس وحدة التاريخ حتى وإن كانت تفتت الجغرافيا. وإلى الآن فإن إيران رغم ما نعلم من حقدها على العرب خاصة وعلى السنة عامة فهي لم تتخل عن وحدة التاريخ فتسمي نفسها دولة إسلامية.
لكن خذ الأنظمة القومية العربية سواء كانت البعثية بصنفيها أو الناصرية بصنفيها (الناصرية والقذافية) فإن كذبة القومية -لأنها كانت طائفية في العمق كما تبين من سلوك النظام السوري حاليا- مزقت التاريخ تمزيقها للجغرافيا وأحيت النعرات القومية عند شعبين آخرين: الأكراد مشرقا والأمازيغ مغربا.
ثم إن هذه الأنظمة التي تدعي القومية وتبحث عن شرعية تاريخية قطرية وليست قومية فالبعثي يتبلبل والناصري يتفرعن والتونس يتقرطج والسوري يتفينق ويصبح التاريخ المتقدم على الإسلام أهم من التاريخ الإسلامي المشترك لأن هذا ينفي عنهم الشرعية وذاك تستمد منه الشرعية غير المشتركة.
وكل هذا معلوم وهو ليس قصدي من كتابة هذا الفصل بمناسبة وفاة برنار لويس. قصدي هو كيف نتصدى لهذه الظاهرة التي لم يبدعها بل هو صاغها استراتيجية على علم بما جرى ويجري في التاريخ بمنطق التعامل مع الأشياء بما فيها تماما ككل معرفة علمية توظف للعمل على علم وتلك هي الاستراتيجية.
وما كنت لأكتب هذا الفصل لولا أني أشهد الآن أفسد طريقة للتصدي ليس عند العرب وحدهم لأن المشكل يشمل كل شعوب الأمة وخاصة شعوبها ذات الدور المركزي في إمكانية الإستئناف الإسلامي في عالم العماليق أي شعوب الإقليم المشتعل الآن أعني إقليمنا من المغرب إلى إفغانستان ومن اليمن إلى تركيا.
فلكأن الجميع قرر أن يطبق استراتيجية برنار لويس دون وعي: فمواصلة النزعة القومية سيؤدي إلى التفجير الذي يقدم لويس استراتيجيته ليكون أداة تسريع لهذا التفجر الذاتي الذي تقوم به أنظمة الإقليم كلها بالداءين الكامنين فيه: لغم القوميات والطائفيات في نفس الدولة ولغم الحدود بينها فيه.
ولنكف بمثال الأقوام الثلاثة الأكثر عددا في الإقليم: العرب والأتراك والإيرانيين. فلا أحد منهم يحوز أرضا سكانها كلهم من جنس واحد.. والمثال الأكثر وضوحا هو أن الأكراد يوجدون في أربع دول متجاورة وكونهم القومية الوحيدة المحرومة من الدولة علة زعزعة الدول الأربعة دون أدنى شك.
فإيران فيها أكثر من 5 قوميات وما أن يضعف النظام حتى تنفجر الدولة دون شك خاصة والاستراتيجية المعادية تعتمد على الصراعات القومية والطائفية فإذا رأى أصحابها أن إيران تهدد مصالحهم فلن يتوانوا على استعمال هذين المفجرين. وقس عليها بقية الدول حيث القبلية والطائفية تؤدي نفس الوظيفة.
والعلاج موجود وإذا ترددنا في الإقدام على استعماله فنحن المسؤولون عن التفتيت وليس برنار لويس. فيكفي أن نفهم أن الاستراتيجية التي شرع فيها الاستعمار قبله والتي اكتفى هو بصوغها لإتمام المهمة تتمثل في مرحلتين: تفتيت الجغرافيا وتكليف نصب على فتاتها بإتمام المهمة بتفتيت التاريخ.
والتاريخ المستهدف هو التاريخ الإسلامي المشترك بين هذه الشعوب والذي يتمثل جوهره في التعالي على اللغمين القومي والطائفي والاستناد إلى مظلة جامعة هي مظلة الإسلام التي تجب ما قبلها فتجعل الجميع سواسية في الانتساب إلى نفس التاريخ الروحي والحضاري دون إلغاء التعددين.
وعندئذ يصبح تعدد الأعراق وتعدد الطوائف عاملي ثراء حضاري وروحي وليس لغمين كما يراد لهما أن يصبحا من الاستراتيجية التي صاغها لويس.
وللعلاج مرحلتان: 1. كل دولة حالية تتخلى عن القومية والطائفية ليس بالكلام بل بالفعل فتصبح دولة متعددة القوميات والطوائف بالاعتراف بحقوق الجميع بالتساوي.
لكن ذلك لا يكفي لأن القوميات التي ليس لها دولة وتتوزع على عدة دول سيبقى في نفسها شيء لأنها تريد أن تكون مثل القوميات التي لها دول. وتلك هي الخطوة الثانية: ينبغي أن تتكون كبداية كنفدرالية تكون فيها هذه القوميات المحرومة من الكيان السياسي حاصلة على كيان في دولة كبرى تجمع بينهم.
ولنواصل الكلام على مثال الأكراد. فهم موجودون في أربع دول ولا يحل المشكل بطريقة لا تجعل الأكراد يلجؤون لإسرائيل وأمريكا لتهديد استقرارها إلا بحل يلغي المشكل من أصله. أن تتكون كنفدرالية ثم فدرالية بين هذه الدول الأربع وتصبح للأكراد دولة خامسة بينهم لها نفس الحقوق في الفدرالية.
فأوروبا أقوام مختلفة استعملوا هذا الحل الذي حيد سويسرا وقلل من الحروب بينهم في بداية العصر الحديث وذلك بأن جعلوها دولة محايدة متعددة الثقافات واللغات وطبعا الأعراق والطوائف فلم يزعج ذلك ألمانيا وإيطاليا وفرنسا بل مكن هذه الدول من الاستقرار وحال دون التفتيت المفروض.
وهذا الحل يلغي كل فاعلية لاستراتيجية التفجير التي وضعها برنار لويس بدعوى منع الصراعات والقصد ليس ذلك بل هو منع تكون دول إسلامية قادرة على تحقيق شروط العصر في التنمية المادية والعلمية لأن الحجوم الذرية للدول تجعلها محميات لا حول لها ولا قوة فتكون متسولة حماية ورعاية.
وطبعا لست بهذا أدافع عن لويس بل بالعكس لا أريد أن ينسب إليه ما لا يستأهله فليس له سلطان على التاريخ لا هو ولا غيره بل التاريخ عندما يكون موضوع علم دقيق يمكن استعمال سننه تماما كما نستعمل قوانين الطبيعة عندما نعلمها علما دقيقا فنغير مجرى الأحداث باستعمال قوانينها وعللها.
والحل المقترح هو بكل بساطة استعادة ما أفقدنا إياه الانحطاط من تعال على العرقية والطائفية والانضواء تحت مظلة أسمى توحدنا تاريخيا فنتحد جغرافيا ونصبح بحق ذوي سيادة وحماية ورعاية فلا يستطيع أحد النفاذ بيننا ليفرقنا فنكون نحن من يفتت الجغرافيا والتاريخ وليس برنار لويس ومن يعمل بخططه.