أبو يعرب المرزوقي
هل كان يوجد عربي واحد يفرح بما كان متوقعا مما بدأ يحدث لإيران وميليشياتها لو كان قادة إيران كما يزعم فيهم حكماء وأذكياء؟
كان الكثير يعتقد أني أقلل من شأن الإيرانيين منذ أمد طويل لعلتين: كانوا يزعمون أن موقفي ناتج عن تاريخ الحركات الباطنية وأن فيه شيئا من “العمالة” للغرب ضد المقاومة.
والتعليل الأول لموقفي يصدر عادة عن بعض الإسلاميين والتعليل الثاني من القوميين. ومعنى ذلك أن المزايدين علي في الإسلامية وفي القومية أفقدتهم المزايدات البصيرة فلم يدركوا أني في آن لم أكن أحقد على الإيرانيين بل كنت أتوقع أنهم في غفلة مما يدبر لهم بما ظنوه فرصة لاسترداد الإمبراطورية.
فما كان يجري وظنوه فرصة ليس جديدا فإيران كانت منذ نشأة دولة الإسلام الرديف الذي تستعمله كل قوة تريد غزو دولة الإسلام وكانوا دائما يخرجون بخفي حنين لكنهم لم يتوقفوا وتصوروا أن الفرصة الذهبية حانت منذ أن عادت الغرب إلى ما فشل فيه بعيد الحرب العالمية الأولى مما كان ينتظره من تفتيت.
هل كان من المفروض لو كان لقادة إيران وخاصة التي تصف نفسها بكونها إسلامية أن يواصلوا نفس السياسة التي تأكدت منذ القضاء على الدولة الأموية -الخراسانيين- بعد سايكس بيكو ووعد بلفور حتى لو كان من العرب من خان الأمة وساهم في التفتيت وإسقاط رمزها على ما به من عيوب؟
وهل كانت ميليشياتها التي يقودها بقايا دولة الباطنية الفاطمية وبقايا الصليبية واستعمال تشيخ آل البيت ليكون مطية الصفوية لغزو أرض العرب برضا بين من الغرب بل وتشجيع بهذا القدر من الاندفاع ويزعمون مع ذلك أن الغرب وإسرائيل ليس لهم من وراء ذلك هدف هم فيه مجرد أداة ومطية مركوبة؟
ذلك ما حذرتهم منه فظن بعض دراويش الإسلاميين والقوميين بي كل الظنون لأنهم كانوا مصدقين أن ما تفعله إيران كان غيرة على الإسلام وعلى فلسطين ولتصورهم باطنية العلويين قومية ومليشيات لبنان ذات حس عربي أو إسلامي وهو ما لم أصدقه أبدا وما لست مستعدا لتصديقه حتى لو مشوا على الماء.
ورغم أني لم أكن محبا لصدام وللبعث عامة فإن الرجل كان أكثر العرب وعيا بالخطر الدائم على العراق وسوريا وعلى الخليج من بقية العرب. لكن حتى لو فهم العرب مثله فإن الغرب كان ينوي التمكين لإيران لعلتين: لأنه شعر أن خطط بريطانيا وفرنسا بدأت تفشل وينبغي وضع خطة تستكملها: لشرق الأوسط الجديد.
والخطة كانت في البداية تستهدف ما للعرب من شروط الاستئناف ولو بالقوة ولم تكن تركيا حينها من بين المستهدفين لأن بداية عودتها إلى ذاتها -سواء كان ذلك صادقا أو منافسة لإيران على العرب لا يهم- وأصبحت الخطة بعد ذلك ذات هدفين: العرب والأتراك خاصة للمعلوم من التاريخ.
وقد عزمت على إملاء هذه المحاولة لأني بدأت أسمع أصواتا تخوف العرب من قوة إيران وأنها ستضرب منشآتهم وقواعد أمريكا في الخليج. والأول ممكن لكن الثاني مستحيل إلا إذا كان بلغ الحمق بقادة إيران إلى إعادة بلادهم إلى القرون الوسطى لعل ذلك يناسب نظام الحكم القروسطي للملالي.
وقد يضرب الأمريكان عصفورين بحجر واحد: يسمحوا لإيران بماء الوجه فتضرب بعض المؤسسات العربية في الخليج بدلا من الرد على إسرائيل ثم يحجمونها لتستفرد إسرائيل بأرض العرب كلها وليس من النيل إلى الفرات أو للتفرع مع بعض الخونة من العرب إلى تركيا لتصبح صاحبة الشرق الأوسط الجديد.
وخوف العرب من إيران دليل غباء وخاصة إذا أدى إلى اللجوء إلى الحلف مع إسرائيل. فإيران بوسعهم الانتصار عليها بالإخلاص لأمتهم وشعوبهم فهي لا شيء أمام قوة العرب لو كانت ذات قيادة حكيمة أما إسرائيل فهي ستأكلهم لأن ما تفعله هو ما تسعى إليه أمريكا في تنافسها مع الصين.
فأمريكا من دون مستعمراتها -وخاصة أرض العرب- لا يمكن أن تزن ما تزنه بها في التنافس مع الصين ومن لم يفهم ذلك فهو لا يفقه شيئا في الاستراتيجيا لأن أمريكا ما كانت لتنهك نفسها وتبعثر مالها وقوتها من أجل شيء لا يفيدها في الصراع الذي يحدد نظام العالم الجديد بعد سقوط السوفيات.
ومعنى ذلك أن الاحتماء بإسرائيل لن يفيدهم في شيء بل هو يسهل عليها ضربهم بإيران ثم تحجيم إيران التي سيسقط نظامها ويأتي علمانيوها فيتحالفوا معها تحالف الشاه بعد أن يدركوا أنهم لا حل لهم إلا الاختيار بين الصين وأمريكا وأمريكا هي الأقرب في الظرف الراهن. وهو ما أتوقعه.
ولو لم تكن قادة إيران بهذا الاندفاع الغبي والحقد الدفين على العرب والإسلام لكانت في وضع يجعلها مع العرب والأتراك قادرين على منع مشروع الشرق الأوسط الجديد لكنها كانت أكثر المساعدين على تحقيق الكثير منه حتى عندما ستضرب لأنهم سيمكنونها مما يسمى “البارود دونور” أو ماء الوجه.
وقد مكنوها منه مسبقا في العراق وسوريا البلدين اللذين هدموا فيهما المعالم العربية والإسلامية ولم تبق إلا معابد التخريف الشيعي التي هي إلى الوثنية أقرب منها إلى الإسلام لكنهم سيعطونها المزيد فتضرب الخليج ربحا للوقت في التفاوض على الاستسلام لتنصيب إسرائيل “ربا” للشرق الأوسط الجديد.
أعلم أن عباقرة التحليل يعتبرون ذلك مجرد تخيلات. لكن من لا يعرف حقد الملالي على العرب وعلى الإسلام لن يتصور مثل هذا السيناريو: لا بد لهم من فعل ما يثبت أنهم قاوموا الهجمة عليهم. ولما كانوا عاجزين عن الرد على إسرائيل فيها فلا بد أن يردوا في مكان ما ولم يبق لهم إلا الخليج.
وقد يفعلون ذلك متوهمين أنه قد يصد الهجوم عليهم. ومرة أخرى يخطئون أنهم حتى في هزيمتهم يخدمون الفخ الذي نصب لهم منذ أن سلمتهم أمريكا العراق وساعدتهم بغض الطرف عن سوريا ولبنان وحتى اليمن. فهي كما سميتها مجرد جرافة تمهد الأرض لإسرائيل حتى تترأس الشرق الأوسط الجديد.
لن تستطيع مساومتهم لا بضرب العرب ولا بسد المضيق لأن ذلك كله يندرج في الخطة. الأول حتى تعزل تركيا نهائيا وتوظف العلوية والعلمانية الكردية والتركية للقضاء عليها والثاني حتى تحاصر إيران نفسها لأن المضيق ممر للبترول والغاز وهما ثروتها الوحيدة خاصة وهي محاصرة من ناحية أفغانستان.
وأرجح التوقعات أن إيران لن تستسلم ليس بسبب ما حصلته من أرض العرب بل بسبب أن خسرانها ذلك يؤول حتما لسقوط النظام ومن ثم فهي ستدافع عن النظام وليس على الغنائم. وفي ذلك سيكون الشعب الإيراني حليفا لإسرائيل والأمريكان وقد يؤدي العناد إلى تفتيت إيران بالحركات القومية المختلفة.
ولذلك فالتوقع المعقول هو حدوث انقلاب عسكري في إيران وقد يقوده الحرس الثوري نفسه ليحافظ على وحدة إيران ولو بتغيير النظام بما يرضي أمريكا لتعود إلى دور مساعد الشرطي كما كانت في عهد الشاه. وهذا هو مطلوب إسرائيل ويمكين أمريكا مشروع الصهيونية والمسيحية الصهيونية.
ما زالوا بحاجة إلى إيران وتوظيف التشيع الصفوي حتى من دون نظام الملالي لأن معركتهم لا تقتصر على العرب والترك بل على دار الإسلام كلها. فهم يعلمون أن أمريكا لن تبقى سيدة العالم من دون ما لها من سلطان عليها من إندونيسيا إلى المغرب. خوفهم من الاستئناف أكثر من خوفهم من الصين.
ومن له اطلاع على رؤى لويس وسياسة كيسنجر يعلم أن السلطان على دار الإسلام يعتبر الشرط الضروري والكافي للاستعداد إلى التنافس مع الصين لأن حصارها لا يكون في الهادي وحده بل خاصة في مصادر الطاقة التي هي بالأساس من الشرق الأوسط وما حولها من بلاد الإسلام.
وزبدة القول الاستراتيجيات في العولمة تجمع بين وحدة المعمورة كمكان ووحدة تاريخها كزمان: فالذي يخطط للمنازل التي تشغلها الشعوب في الأرض لا يمكن أن ينسى التاريخ. ولا يزال الغرب يسعى لاستكمال ما خطط له الإنجليز والفرنسيين للإقليم ويبدو قد فشل لأن بعض بلاده بدأت ترفع رأسها.
وإيران كان لهم السند الأساسي في تفجير الإقليم والتهيئة لضرب من يخيفهم فيه: فالخطة البريطانية خاصة استهدفت العرب والأتراك وكانوا مستعدين لترك إيران لروسيا وتمكينها من تركيا واقتسام الأرض العربية غنيمة للحرب والقضاء على الخلافة رمز وحدة الأمة وزرع إسرائيل.
والمعلوم أن من خانوا الخلافة في تركيا وفي بلاد العرب وإيران كانوا من المساندين لزرع إسرائيل والمتعاونين معها منذ البداية وهو ما يريدون استعادته: محاولة الانقلاب في تركيا وما يجري من حلف عربي مع إسرائيل وافقاد إيران وهم القوة -وهو وهم- يسعى إلى نفس الغاية من خطة بريطانيا.
وختاما أقول هذا ولا أمل لي في:
1. تخلي العرب عن سلوك النعامة.
2. رجوع الصواب للملالي فيتخلوا عن الحقد والثأر من العرب لأن السيف سبق العذل.
وأملي الوحيد أن تتحرك شعوب العرب في الإقليم لتغير الأنظمة والحلف مع تركيا حتى لا تسقط هي بدروها فيصبح الإقليم الشرق الأوسط الإسرائيلي بإطلاق.
وبدلا من أن يتحد العرب ليكونوا قادرين على حماية أرضهم وعرضهم وبدلا من أن يتحالفوا مع تركيا التي هي بدورها معرضة لنفس الخطر تراهم يتسابقون في الخضوع للدكتاتور الإسرائيلي والأمريكي ويحاربون بعضهم البعض ويسعون لمحاصرة تركيا التي مدت لهم يديها فصدوها.
ولا يمكن لقوم لهم ذرة من عقل أن يعملوا ما يعملون لكن لا غرابة فهم أنفسهم من في الربع الأول من القرن باعوا الإسلام ورموزه من أجل محمية ينصبون عليها سلاطين وأمراء وشيوخ وملوك دون سيادة ودون كرامة ودون مشروع لكأنهم لا صلة لهم بقلب الإسلام وعاصمة الخلافة الأولى.
أما الملالي فقد بلغوا الغروب ولا يعني ذلك أن إيران مهددة لأن أبناءها سيعودون لما كان عليه نظام الشاه مساعد الشرطي الإسرائيلي (الشريف في أمريكا) لأن المشروع الغربي ما يزال بحاجة للمخرب الداخلي في الإقليم الذي يعلمون أن ثقله الحقيقي ليس إيرانيا بل هو عربي وتركي.
فعلاقة الغرب بالإسلام بدأت مع العرب وختمت مع الأتراك. الأولون أنشأوا دولة الإسلام ثم غرقوا في النكوص إلى الجاهلية والإخلاد إلى الأرض فقيض الله الأتراك والأكراد والأمازيغ لحماية البيضة وإلا لكانت حروب الاسترداد وخيانة الصفويين قد أنهت دولة الإسلام منذ القرن السادس عشر.