الكاميرا المُخيفة ومؤامرة التطبيع
عرف التونسيون برنامج “الكاميرا الخفية” منذ الثمانينات من خلال المخرج رؤوف كوكة وكان الانطباع حول البرنامج أنه ومضات طريفة للتسلية وللطرائف والتندر دون مس بكرامة الأشخاص وأعراضهم ودون كشف لأسرارهم ودون تعرض لأمن الدولة ومعاني السيادة الوطنية بل كان البرنامج بعيدا عن كل ما هو سياسة وما هو محل خلاف بين التونسيين.. كان ثمة عنوان أخلاقي يتحكم في برنامج “الكاميرا الخفية” رغم ما قد يظنه البعض من وجود حلقات ليست خفية بل معلومة مسبقا لدى ضيوف رؤوف كوكة.
في السنوات الأخيرة عرفت سلسلة “الكاميرا الخفية” خروجا تدريجيا عن طابعها الترفيهي لتنغمس في السياسي والفضائحي بما لاقى امتعاضا لدى كثير من التونسيين.
الصدمة كانت هذه السنة بما أقدم عليه الصحفي وليد الزريبي من خروج كلي عن الطابع الهزلي الترفيهي للبرنامج إلى ما يرقى إلى مستوى “الجريمة” بحق المواطنين والوطن.
عنوان السلسلة الذي اختاره وليد الزريبي هو عنوان مخادع ماكر وهو مدخل لجريمة “التطبيع”، ومفردة “تطبيع” عند أغلب التونسيين تُحيل إلى الكيان الصهيوني وتذكرهم بجرائمه ضد أشقائنا الفلسطينيين من احتلال لأرضهم وقتل لصغارهم وأسر لرجالهم ونسائهم وأخيرا تهويد لقدسهم برمزيتها التاريخية والعَقَدية والسيادية.
عنوان السلسلة “شالوم” لم يكن عنوانا مجانيا فالمعارك تُخاض دائما في اللغة والسياسات والمشاريع والمؤامرات تصاغُ وتسوّق في اللغة والوعي يُشكل باللغة واللغة إنما هي معمار خطابي يتشكل من مفردات لها مضامينها ودلالاتها وإحالاتها يُدركها جيدا المشتغلون في مختبرات “تشكيل الوعي” واختراق الأنسجة الثقافية والروابط القِيمية والمعايير الأخلاقية للمجتمعات.
“شالوم” مفردة لم تُتَداول لدى التونسيين كما تُدُووِلتْ هذه الأيام في الإعلام وبين النخب وفي البيوت وبين عموم الناس بسبب برنامج “الكاميرا الخفية” لهذه السنة.
هل كان وليد الزريبي صاحب الفكرة؟ هل كان فعلا يريد اختبار معدن السياسيين والمثقفين والفنانين قُبالة موضوع التطبيع؟ هل استشار مسؤولي الدولة قبل إقدامه على إنجاز “عمل” لا تخفى علاقته بأمن البلاد والعباد؟ من أين جاء بتمويل الحلقات؟ هل كانت طريقته في معاملة الضيوف المستدرجين طريقة لائقة ومحترمة لكرامتهم الإنسانية ولأمنهم النفسي؟.
بقطع النظر عن كيفيات تصرف المستدرجين للبرنامج ودون بحث في مدى شجاعتهم وضعفهم ومدى مبدئيتهم وخضوعهم فإن الأهم هو ما في “اللعبة” من مؤامرة على قضية الأمة المركزية وفي ظرف حالك مأساوي يشتد فيه الخناق الأمريكي الصهيوني الرجعي على إخوتنا الفلسطينيين وخاصة أبناء غزة الذين ظلوا يقاومون لوحدهم باسم الأمة كلها.
مؤامرة التجريع الناعم للتطبيع من خلال اللغة ومن خلال الصورة ومن خلال الخيال ومن خلال انتزاع “اللحظة” المُطبّعة تحت التهديد أساسا وهو ما يجب توصيفه “جريمة احتجاز موطنين وتهديدهم وإرهابهم لانتزاع مواقف خدمة للعدو وتشويها للوطن”.
سلسلة “الكاميرا الخفية” لهذه السنة لوليد الزريبي هي “جريمة بحق وطن ومواطنين وأمة” وفيها اعتداء على الوعي الجمعي وعلى الكرامة الوطنية وعلى الأمان النفسي لعدد من المدعوين، على دولة “الثورة” أن تتخذ موقفا يحفظ كرامتنا ويعتذر لشهداء غزة وللمرابطين على حدود جغرافيا الأمة وجغرافيا الوعي.