زهير إسماعيل
هناك آيات قرآنيّة تمثّٰل سقف القرآن الأعلى، وجوهر رسالته، وبعبارة المفسرين هي حَكَمٌ على ما سواها، وهي بمثابة الأصول التي يقاس عليها أو المفاهيم الكبرى التي يحتكم إليها.
من هذه الآيات ثلاث شدّتني إليها:
• مبدأ وحدة الأصل الإنساني: “هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا” الأعراف 189. ومن ثم وحدة الأصل والمنزلة المتساوية للزوجين المتخّلقين من النفس الواحدة. والاختلاف بين ذكر وأنثى وظيفي لكي يحفظ النسل في إطار مؤسسة الأصل أن تحكمها المودّة والرحمة، ولا أثر لهذا “الاختلاف الوظيفي: أنوثة/ذكورة، على المنزلة الواحدة وهي الإنسان، وحدة النوع الإنساني نقلة نوعية أشبه بالصدمة في القرن السابع الميلادي، لم يبلغها العصر الهلنسيتي (المعلم الأول كان يحمد الله على أن خلقه رجلا ولم يخلقه إمراة، وخلقه سيدا ولم يخلقه عبدا، في مرحلة تُقصى فيها النساء والعبيد من الدائرة الانسانية).
وفي ظل هذا الوعي نفسه تُفهم كثير من “دعوات الفيمينزم، وومفاهيم الجندرية”،،، وكثير من الاتفاقيات الدولية حول المرأة والإنسان” على أنّها سليلة ثقافات قديمة وأديان بعيدة لا تقول بوحدة الأصل الإنساني للمرأة والرجل وبالمنزلة المتساوية التي لا تلغي الاختلاف الوظيفي الضروري (ذكر/أنثى)، ولا تسمح لكي يكون مبررا لاختلاف المنزلة، في أي اتجاه. وبذلك تكون الآية شاهدا على تجارب التاريخ لا العكس.
• مبدأ حريّة الاختيار: فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ” الكهف 29. فالكفر والإيمان اختياران/مجازفتان، لا يعود فيهما المرء إلاّ إلى حرية ضميره، أيًّا كان موضوع هذا الكفر وهذا الإيمان. وتتنزّل حرية الاختيار في سياق منهجية الترغيب/الترهيب. وهي ليست منهجية قرآنية بيانية فحسب بل هي “منوال” يؤسس كل التجارب الإنسانية.
• مبدأ لا إكراه في الدين: “لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ” البقرة 256. ترجم هذا المبدأ العظيم الشاعر العراقي سعدي يوسف بقوله: الإسلام هو الحرّيّة في ألاّ تؤمن بالإسلام، وهذا ما تفرّد به القرآن وهو يعرض نفسه على الأعراب ومن ورائهم كل الإنسانيّة، بأنّ الدين اختيار أو لا يكون، وفي ذلك إشارة إلى الديانات السابقة التي صار فيه الدين إكراها، والإكراهات منها المباشر كإلزام المؤسسة الدينية الناس باعتناق الدين كرها، ومنها غير المباشر كشروط التبادل الاجتماعي، وأنظمة التربية والثقافة. فالأصل أن يكون الدين اختيارا. والإسلام هو الدين الوحيد الذي تتضمن الرسالة التي يقدمها للناس لكي يعتنقوه أن “حرّيتهم في عدم الإيمان به جزء من رسالته نفسها”. إنّها المجاورة بين الدين و”وعي الدين”. إنّه تنبيه إلى “أهمية الانتماء”، وإلى “آلية الانتماء” ومنطقها، ومعلوم أنّٰ الإنسان في لحظة الانتماء لا يعي “آلية الانتماء” لأنّ الوعي بهذه الآلية غالبا ما يفضي إلى “الكف عن الانتماء”. ولكن الآية تصرّ على المجاورة بين “الانتماء” و”ميكانيزم الانتماء”. وفي ذلك رغبة في توفير منتهى شروط الاختيار، ووعي الاختيار.
هذه آيات معالم تقوم على وحدة المنزلة الإنسانيّة وحرية الضمير وحريّة الاختيار، وأمّٰا التطبيقات فمشروطة بالثقافة والتاريخ ومستوى الوعي، وكل أُمَّة تأخذ منها بحسب مستواها الذهني وذكائها الجمعي ورقيها القيمي ودرجة تحضّرها.
هذه الآيات المعالم، إلى جانب فكرة المقاصد، مدخل ملائم لتحويل النص المؤسس إلى مفاهيم، على ضوء حدود النص التداولية وبنية الجملة العربية وثقافة العصر والذكاء الإنساني، لكي يتسنى الخروج من “الخطاب الشريعي” باعتباره “منهجا مُطبَّقًا” “لا منهجا للتطبيق”، أي أنّ “الخطاب الشريعي” برمته لغةٌ واصفة وجهد ٌتنظيري وأَحكامٌ وإجابات عن مشكلات قديمة، فلا يمكن آن يكون إجابة عن مشكلات مستحدثة. ويمكن الاستفادة من هذا الجهد في مستوى واحد هو المستوى المنهجي، لا ما انتهى إليه من حلول لمشكلات عصره (فتح معرفي).
فلا تحرير ولا تنوير دون الخروج عن الخطاب الشريعي التاريخي (وليس عن الشريعة)، في كلمة: تحويل النص المؤسس إلى مفاهيم (ترجمة مفاهيمية إلى لغة النظر الحديثة) تكون منطلقا لـ”منوال جديد” يساهم في حلول ما يواجه الإنسانية من مشكلات سياسية وأخلاقية وعمرانية وتواصلية… من “الإحياء” إلى “التأسيس”.