الحرب خدعة ليس أيسر من خداع المخادعين
أبو يعرب المرزوقي
كلما سمعت قوميا عربيا يتكلم على المقاومة والممانعة استنتجت دون حاجة للاستدلال ولا لمعرفته شخصيا أنه أحد رجلين أو امرأتين:
1. فإما أنه غافل ولا يريد أن يعترف بالحقائق الجارية على الأرض حتى بمجرد سماع شعارات الغزاة من مليشيات إيران من الإقليم ومن خارجه في تهديم سوريا والعراق واليمن وقد نجد له عذرا لفرط سلطان بروباغندا إيران وميلشياتها وخاصة بوقها اللبناني على العقول والقلوب بسبب جرائم إسرائيل وإذلال الكرامة العربية منذ نشأتها.
2. لكن النوع الثاني: هو المرتزقة من المثقفين الذين يدعون العروبة واليسارية والنقمة على الغرب وهم أشهر عملائه نقمة على الإسلام وأمته.
فما سمعت بأحد يدعي القومية في العالم ينضم إلى محتل بدعوى مقاومة محتل ثان خاصة إذا كان المحتلان لهما نفس السياسة في السعي لاسترداد إمبراطورية متقدمة على الإسلام أي على وجود العرب ذاته في الأرض التي يحتلانها: إمبراطورية كسرى وإمبراطورية داود أي أرض الإسلام منذ أربعة عشر قرن.
وقد ظن البعض من هؤلاء المرتزقة أني عندما أقول إن إيران أخطر من إسرائيل ليس بالكم فحسب بل وكذلك بالكيف أني أدعو للتطبيع مع إسرائيل. فأولا لا حاجة لمثلي أن يدعو للتطبيع مع إسرائيل فكل الدول العربية دون استثناء مطبعة معها إما مباشرة أو بتوسط سلطانها في الغرب أو لوبياتها لدى حماتهم.
وواضح إذن أنهم يتصورون أن كلامهم هذا يمكن أن يؤثر في فيمنعني من بيان علة اعتباري إيران أخطر من إسرائيل كميا وكيفيا. فكميا ما تحتله إيران من أرض العرب يمكن اعتباره مائة مرة أكثر مما تحتله إسرائيل وإذا عممت فإن إيران نفسها أرض إسلامية يحتلها الصفويون منذ أن شيعوها بالعنف الطائفي.
ولكن حتى لو اكتفينا بأرض العرب فإن جمع الأحواز والعراق وسوريا ولبنان واليمن من أرض العرب المحتلة بالفعل دون ذكر ما هو محتل بالقوة (جل الضفة الغربية من الخليج) فإن الكم يتكلم بنفسه وهو أضعاف أضعاف ما تحتله إسرائيل. لكن الأهم من ذلك هو الكيف. فما تحتله إيران ليس الأرض وحدها.
فاحتلال الأرض قابل للرجع. يمكن أن تسترد الأرض كما حدث في فلسطين في القرون الوسطى وفي تونس في القرن السادس عشر وفي كل بلاد الإسلام بداية من القرن السابع عشر كلها احتلت أرضها لكن أهلها لم يمسحوا. ولما مسح من بقي في الأندلس وفي جنوب إيطاليا ذابت في الهوية المسيحية أرضا وناسا.
فمن يتصور احتلال إيران مقصورا على الأرض قد يتوهم أن الرجع ممكن. لكن إيران بالتبشير الشيعي العنيف والتصفية الطائفية التي لا تقل بشاعة عما حدث في الأندلس هو الأمر الكيفي الذي أتكلم عليه. وبخلاف إسرائيل فإن احتلالها يزيد الفلسطينيين تشبثا بالهوية الإسلامية والمسيحية إيمانا وعروبة.
وليس قصدي التهوين من الاحتلال الإسرائيلي لكني بصدد ترتيب الأوليات في طبيعة الاستراتيجية التي نحتاج إليها لمنع الكيفي مع منع الكمي. فأن نعتبر مقاومة إسرائيل مبررا للسكوت عن مقاومة العدو الأخطر غباء استراتيجي ولا أتكلم على الفلسطينيين حصرا بل على العرب والمسلمين عامة.
ولكن حتى الفلسطينيين فإن أي عملية حساب دقيقة تبين أن المستفيد من شبه الحلف بين المقاومة الفلسطينية وإيران ليست القضية الفلسطينية بل إيران. ذلك أن ما يعنيها ليس تحرير فلسطين ولا القدس بل استعمال القضية لغرضين:
1. بروباغندا ربح القلوب.
2. مساومة الغرب بهذه الورقة لضمان بقاء النظام.
والدفاع الاستراتيجي للقضية الفلسطينية هو جعل النضال مستقلا عن الكل عربا كانوا أو عجما والتوجه إلى الإنسانية كلها وتحديد طبيعة النظام الإسرائيلي الذي هو مثل النظام الإيراني يستمد مشروعيته من خرافات ثيولوجية إذ لا فرق بين دعاوى إسرائيل في فلسطين ودعاوى الصفوية في آل البيت.
وبهذا المعنى فحق الفلسطينيين في فلسطين حق محض لا يستمد أساسه من دعوى دينية حتى وإن كان للبعد الديني دور وهو ليس الإسلام وحده بل الأديان السماوية الثلاثة: فالفلسطينيون فيهم المسلم والمسيحي واليهودي قبل وجود إسرائيل وينبغي استراتيجيا استعمال ذلك لتكون القضية عالمية.
ذلك أن المشكل هو مع الغزاة الأوروبيين الذي احتلوا فلسطين تماما كما احتل الفرنسيون الجزائر وتمكن الثورة الجزائرية من إخراجهم كمحتلين. لا ينبغي أن نقبل صوغ قضايانا بمصطلحات أعدائنا. فلسطين مستعمرة غربية حاليا يضاف إليها التمييز العنصري: بعدا المسألة وفيهما ضرر إيران أكثر من نفعها.
وهذا تحليل لم أخفه عن قيادات فلسطين الكبار من أبي عمار إلى أبي العبد إما بالمراسلة أو مباشرة وخاصة مع بعض قيادات حماس لأن أبا عمار كان قد غادر تونس لما شرعت في الكلام على المسألة الفلسطينية وخاصة بعد خرافة الاستراتيجية العربية التي صيغت في لبنان سنة 2002 وهو محاصر.
وسأسمح لنفسي -وهو من حقي لأني عربي ومسلم وإنسان- أن أقول إن النكبة الكبرى ليست في ذلك بل هي نفس ما كاد يقضي على ثورة الربيع: تحول المقاومة في الحالتين إلى فتات من الحركات بعدد شعر الرأس. فإذا كان أصحاب القضية المباشرين لم يستطيعوا أن يتفقوا على استراتيجية موحدة فمن نلوم؟
فكل صبيانيات اليسار العربي والقومية العربية جعلت القضية تجارة وموضوع مزايدات بين من تحولوا إلى أمراء حرب وكنت أعجب من كلامهم شبيه بكلام كذاب الضاحية: تحرير فلسطين يمر بعمان. فكنت أقول لمن أصادفه منهم. ذلك ما يتمناه قادة إسرائيل فهو سيكون أساس الترنسفار والتهجير إلى الأردن.
فمثل هذا الغباء يمكن أن نقول إنه لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على بال عاقل يفهم في الاستراتيجيا والخب الصهيوني: فأهم عناصر قوتهم أنهم يستفيدون من غباء أعدائهم. عندما تريد احتلال الأردن لتحرير فلسطين تمد الصهاينة بحجة هاهم لهم دولة فلما ينافسوننا على ما وعدنا به إلهنا؟
فيكون العرب الخاسرين لفلسطين أضافوا إليها خسارة الأردن إذ المعلوم أن من يفكر بهذه الطريقة لن يسترد فلسطين. وبهذه الحجة تحتل إيران ودجال الضاحية كل الهلال بحثا عن طريق القدس. وحتى بعد أن توقفت هذه الموجة لم تستطع فتح وحماس أكبر حركتين الاتفاق على المقاومة اللطيفة ولا على العنيفة.
وكل المزايدات بينهم ستضعهما معا. فإذا لم يتقفا فلن يصمد أي منهما وستمر المناورات التي تدور حاليا على قدم وساق. ويكفي أن يتنازل كلا الطرفين من أجل الفاعلية الاستراتيجية للتغلب على الصفقة الكبرى حتى يستطيعوا إفشالها خاصة ومصير الأردن صار رهن مقاومتها. فكفي عنادا واتحدوا قبل الفوت.
فالمهم الآن شيئان قريب وبعيد. فأما القريب فهو تعطيل الصفقة وربح الوقت وأما البعيد فهو إيقاف التمدد الإسرائيلي فيما بقي من أرض فلسطين. ذلك أن مجرد تكون الكيان الفلسطيني الرسمي دوليا سيقض مضجع إسرائيل وسيقضي عليها في مدى منظور حتى لو لم يعد كل المهاجرين.
فالشعب الفلسطيني أكثر شعوب الإقليم تكوينا حديثا وقدرة على التنافس مع إسرائيل وفرض الضربة القاتلة: الدولة الواحدة ذات القوميتين والبقية تتكفل بها البيولوجيا والتنافس العلمي والتقني فتكون فسلطين في آن بداية لدولة حديثة قادرة على المنافسة مع إسرائيل و”مسمار” جحا ضد الغزاة فيها.
وحدة الحركتين الأكبرين -فتح وحماس- تحميهما وتمكنها من الصمود لتعطيل الصفقة ربحا للوقت ولتحسين شروط التفاوض والتفاوض متحدين قوة لا تقهر لأن العالم كله سيكون معهما خاصة إذا تم الجمع بين المطلبين إما تحقيق التقسيم الأول أو الدولة الواحدة لأن إسرائيل حالت بالمستعمرات حل الدولتين.
ولا بأس من القبول ببقاء المستعمرات إذا طبق التقسيم الذي أسس دولتين بشرط أن يكون ذلك تحت السيادة الفلسطينية كما يوجد فلسطينيون تحت السيادة الإسرائيلية. وطبعا فأنا شخصيا أميل للدولة الواحدة ذات القوميتين المتساويتين في الحقوق والواجبات المتبادلة. وإن هي إلا عقدان ويحسم الأمر.