لطيفة شعبان
في مثل هذا اليوم ماي 8 من سنة 1991، مارست سلطة السابع من نوفمبر أعتى أصناف القمع الوحشي في ساحات الجامعة التونسية، قمع وصل إلى حد الاستعمال المكثف للرصاص الحي داخل الحرم الجامعي ضد الطلبة العزل. وحشية التدخل البوليسي في ساحات المركب الجامعي صباح 8 ماي 1991، أدت إلى سقوط شهيدين، وإصابة العشرات يجروح واعتقال المئات من مناضلي “الاتحاد العام التونسي للطلبة”. لقد كان يوم 8 ماي 1991، يوما فاصلا في تاريخ تعامل السلطة مع التحركات الطلابية، فبعد التجنيد وعسكرة الجامعة كانت مواجهة العمل الطلابي بالحديد والنار، بتنفيذ مجزرة رهيبة، عقبها إعلان حالة الطوارئ في عدة أجزاء جامعية، وحملات تمشيط للأحياء الجامعية، واعتقالات واسعة في صفوف الطلبة. هذه الحملة الوحشية الممنهجة، صحبتها حملة إعلامية تحريضية ضد الاتحاد العام التونسي للطلبة ومناضليه، الذين وصفوا بأبشع النعوت.
ما وجب التأكيد عليه ونحن نحيي هذه الذكرى، أن مذبحة الجامعة التونسية في 8 ماي 1991، لم تكن أول تعامل عنيف للسلطة مع الطلبة في بداية التسعينات، ولكن هذا اليوم كان الأكثر وحشية ودموية، حيث أن ساحات الجامعة التونسية قد تعودت صوت الرصاص الحي، خاصة أثناء التحركات الطلابية على اثر “حرب الخليج” وفي هذا الاطار أدى استخدام الرصاص الحي ضد التحركات الطلابية المساندة للعراق في حرب الخليج إلى سقوط الشهيد بجامعة صفاقس “صلاح الدين باباي” يوم 15 جانفي 1991، وسقوط الشهيد “مبروك الزمزمي” بجامعة المنستير يوم 12 فيفري 1991، متأثرا بجراحه على إثر رصاصة أصيب بها في تحركات طلابية في الحرم الجامعي.
في مثل هذا اليوم نظمت في كل من المركب الجامعي وكلية 9 أفريل وكلية الآداب بمنوبة وكلية الشريعة، مسيرات شارك فيها مئات الطلبة، وقد جوبهت هذه التحركات السلمية بالرصاص الحي، مما أدى الى سقوط الطالب وكاتب عام هيئة المؤسسة للاتحاد العام التونسي للطلبة بالمدرسة القومية للمهندسين “أحمد العمري”، والطالب، وعضو هيئة المؤسسة بكلية العلوم بتونس، “عدنان بن سعيد” شهداء، إضافة إلى الجرحى، حيث أصيب الطالب “عادل العماري” يومها برصاصة لا تزال مستقرة في ساقه إلى اليوم، و”بوبكر القلالي” الذي أصيب برصاصة في عينه.
يوم 8 ماي 1991، هو يوم اختارت له سلطة القمع النوفمبري شعار تركيع الجامعة، باستئصال الفصيل الاتحاد العام التونسي للطلبة. فبعد قرار تجميد هذه المنظمة الطلابية بتاريخ 29 مارس 1991، فانها قررت في مثل هذا اليوم اجتثاثه نهائيا من ساحات الجامعة التونسية، بارتكاب مجزرة وحشية في حق الطلبة والزج بمئات مناضليه في السجون، وتشريد الآلاف منهم. رغم أن الاتحاد العام التونسي للطلبة قد رفع في مفتتح السنة الدراسية 1990-1991، شعار “سنة دراسية بلا إضرابات”، لكن ما تعرض له من وحشية في التعامل مع تحركاته يبرز عزم السلطة على التخلص من الاتحاد ومناصريه رغم ما عكسه في الساحة الطلابية من قاعدة شعبية عريضة ومسولية في الدفاع عن حقوق الطلبة والنأي بالجامعة عن الصراعات السياسية لتكون الجامعة تلك المنارة الصانعة للنخبة الممثلة لضمير الشعب والمعبرة عن طموحاته والقائدة لمسيرته نحو التقدم والرقي.
ان ذكرى مجزرة 8 ماي 1991 هي ذكرى اغتيال زهور الحرية والكرامة في الجامعة التونسية، إنه إرهاب دولة في أبشع صوره وجريمة لا تسقط بالتقادم. جريمة وجب فضح مرتكبيها، فقاتلي عدنان وأحمد معروفون، وكل من أطلق الرصاص في وجه طلبة عزل معروف، ومن حق الشهيدين علينا اليوم التشبث أكثر من أي وقت مضى بحقهما في مسائلة ومحاسبة من تسبب في قتلهما، من أعلى هرم السلطة حينها الى منفذي جريمة القتل. ان الاصوات التي تتعالى اليوم منادية بعدم التمديد لهيئة الحقيقة والكرامة، ويدهون زورا وبهتانا الى تجاوز عذابات الماضي وغلق ملفاته في اطار مصالحة وطنية لاتسبقها مكاشفة ولامحاسبة، وتتجاهل عن عمد دماء الشهداء الزكية التي سالت على هذه الأرض الطاهرة، وراكمت زخما ثوريا، تجسدت ذروته في ثورة الحرية والكرامة. يجعلنا نتساءل عن أي مصالحة تتحدثون ياسادتي الكرام ؟ حددوا وظيفة هيئة الحقيقة والكرامة في دور التعويض المادي للمتضررين وروجوا لدور التعويض في الاخلال بميزانية الدولة ودوره فيما وصلت اليه تونس اليوم من تأزم للوضع الاقتصادي. فيا سادتي الكرام، عن أي تعويض تتحدثون؟ اعتذارات وأموال الدنيا لا يمكن أن تعوض دمعة نزلت خلسة من عيني بنت حرمت من حنان الأب لا لسبب إلا لأنه عارض الطاغية… أي تعويض يمكن أن يعيد لأم قضت عمرها بين أبواب السجون من سجن “9 أفريل” إلى “برج الرومي” إلى “الهوارب” الى… الى… تضلعت في الجغرافيا وأضحى عمرها جزءا من التاريخ… نساء أخريات في هذا الوطن يتنقلن من صالة تجميل إلى أخرى، بين هذا الفضاء التجاري وذاك، من لندن إلى باريس… خارطة أخرى للعالم تجهلها بل قل حرمت منها… فعن أي تعويض تتحدثون؟؟؟… أي شيء يمكن أن يعوض فتاة قضت ليلة عيد ميلادها العشرين في “جيولات” بوشوشة تفترش “خيشة” من سعف النخيل وغطاءها “زاورة” أضحت سكنا ” للبق” و”البرغوث” و”القمل”… “زاورة” إذا غطت الرأس كشفت القدم في عز شتاء ديسمبر… بينما فتيات من أترابها يحيين الذكرى في أرقى النزل والملاهي… إنه عيد الميلاد العشرين… فعن أي تعويض تتحدثون؟؟؟… هم الذين حملوا الوطن جرحا… حلما… ألما… بعضهم غادره كرها وبعضهم عاشه سجنا… بعضهم هذا وبعضكم ذاك أحب الوطن وعشق ترابه فأعطاه من دمه ومن عمره فعن أي تعويض تتحدثون؟؟… يحق للذين استنكروا عليهم حق التعويض أن يتكلموا… يحق للذين لا يعلمون للوطن من معنى سوى منطق البيع والشراء أن يتساءلوا عن ثمن الكلغ من النضال… اعذروهم فما الوطن بالنسبة اليهم سوى قارورة عطر باريسي أو ربطة عنق لندنية أو أيقونة في حقيبة سفر… ما النضال… سوى تقرير سري يرسل إلى أجهزة الاستخبارات الأجنبية يطمئنهم على حال الوطن… قلقون جدا على حال الوطن… فاعذروا خوفهم على الوطن… في الوقت الذي كنتم تبحثون فيه عن سبل إعادة الوطن إلى مرفأه كانوا جزعين على الوطن… سيعود إلى ظلمات الهوية والانتماء.. اعذروهم خائفون هم على مصير الوطن…