العزوف العقابي
سامي براهم
هو عزوف لا يعود إلى الاستقالة من الشّأن العامّ والسلبيّة واللامبالاة أو ضعف الوعي السياسي، بل هو عزوف سياسي قصديّ يحمل رسائل سياسيّة.
الرّسالة السياسيّة المباشرة لهذا الضّرب من العزوف هو عدم الرّضى على الأداء السياسي للأحزاب خاصّة التي في الحكم ولكن كذلك أحزاب المعارضة باستثناء التيّار الدّيمقراطي الذي لم يفاجئ صعوده المتابعين لشأن الأحزاب.
هناك فقدان للثّقة في جديّة الأحزاب والسياسيين وفي نواياهم وكفاءتهم ومصداقيتهم وقدرتهم على إحداث نقلة نوعيّة في الأوضاع المؤثّرة على العيش الكريم، بل هناك فقدان ثقة في ذمّة عدد منهم وفي نظافة أيديهم.
لكن هناك أسباب أخرى غير مباشرة خاصّة بحزبي الحكم :
دفع الحزب الأغلبي ضريبة خيار التّوافق الذي كان عكس المسار الذي أتى به إلى الحكم وهو التّصويت المفيد على أساس الاستقطاب والفرز على الهويّة الأيديولوجيّة والنّمط المجتمعي، فكان عكس انتظارات ناخبيه الذين استشعروا الخيانة وخيبة الأمل بعد خيار التّوافق مع من يفترض في قناعاتهم أنّه إسلام سياسي معاد للحداثة والسياسة المدنيّة، وسواء كان خيار التّوافق ذرائعيّا نفعيّا أو إكراهيّا أو مبدئيا فقد دفع الحزب الأغلبي ضريبة هذا الخيار من وحدته الدّاخليّة ومن رصيده الانتخابي، ولن تجد صعوبة في معرفة نسبة المنتخبين في الإدارات الموالية بشكل تقليدي للمنظومة القديمة من خلال رصد نسبة الأصابع المغموسة في الحبر.
أمّا الحزب الشريك فقد دفع هو كذلك ضريبة التوافق مع من يفترض أنّه أحد أحزاب المنظومة القديمة الموصومة بالفساد والوريثة لتركة الاستبداد وما أفضى إليه ذلك من مصادقة على قانون المصالحة الإداريّة وتهاون في الدّفاع عن مسار العدالة الانتقاليّة، كما دفع ضريبة خيار آخر اتّخذه في مؤتمره الأخير حيث أقرّ الفصل بين السياسي والدّعوي في شكل فكّ ارتباط عضويّ وهيكلي مع الدّعوي، وكان من نتائجه الحياد أو عدم الحماس في القضايا ذات البعد الدّيني مثل قضيّة حماية المقدّسات في ظلّ ما وقع إقراره من حريّة ضمير وقضيّة المساواة في الإرث فضلا عمّا يعتبره جزء من قاعدته التقليديّة الموسّعة تخاذلا في الوقوف ضدّ انتهاك الثّوابت الدّينيّة واستفزاز الشّعور الدّيني، يمكن أن تكتشف هذا دون جهد كبير من خلال الملاحظة التلقائيّة بين روّاد المساجد لغياب أيّ علامة على السبابة اليسرى تفيد المشاركة في الانتخابات.
هذه الأسباب غير المباشرة على وجه الحصر “دون ما سبق ذكره من أسباب مباشرة” هي ضريبة خيارات سياسيّة أفقدت هذين الحزبين رصيدا انتخابيّا وصل حدّ النّواة الصّلبة لكنّه ساعد على استقرار البلد وتجنيبها الهزّات والفوضى والاحتراب الأهلي الذي شهدته دول أخرى انهارت مؤسّساتها وتحوّلت مجتمعاتها إلى مذاهب وفئات متقاتلة، ولكن الى حين، حيث لا يمكن ان يصمد طويلا دون مضامين.
المطلوب اليوم دقّ نواقيس الخطر وتجنيب البلد انهيار الحياة السياسيّة بسبب اتّساع دائرة العزوف الانتخابي والسياسي وفقدان الثّقة في السياسة والسياسيين وذلك بتحويل التوافق من دوائره الذّرائعيّة النفعيّة الضيّقة إلى برنامج سياسي اقتصادي يشمل أوسع دوائر الفعل والتّأثير، عبر الاتّفاق على منوال تنمية جامع ينقذ البلد من الانهيار والمواطنين من الإحباط والانتظار.
لهذا البلد ما يكفي من الموارد الطبيعيّة والبشريّة والرّصيد الذي يمكّن من تجاوز الرّكود والنّكوص عن مسار الثّورة.