ديمقراطية مريضة قابلة للمداواة

بلغيث عون 

نتائج الإنتخابات خليط عجيب من الإنتصارات والهزائم، ولا أرى ما يراه كثير من الأصدقاء انتصارا خالصا ولا هزيمة تدعو إلى اليأس. ثمة على الأقل المعاني التالية للإنتصارات والهزائم:

الإنتصارات الضيقة للأحزاب، بالمعنى البسيط لعدد الأصوات. وهي انتصارات ذات بال بلا ريب: فهي تؤكد وزن الأحزاب في أعين من تبقى من شعب معني بالإنتخابات والديمقراطية. وهذه المعطيات معلومة للجميع.
الإنتصار المفرح للمسار الديمقراطي في وجهه الشكلي على الأقل، سير الإنتخابات والقبول بنتائج الصندوق. وهذا الإنتصار ليس لأحد بل للجميع. هو انتصار على المنظومة الإستبدادية، حيث كانت نتائج الإنتخابات مؤكدة سلفا. اليوم لنا أن نقرر بعدما تردد القلم كثيرا في السنين الفارطة، أن مؤسسات الدولة ليست في القبضة المعتادة لمن تخيلنا مسكهم بها، وأن آلية الإنتخاب قد باتت محل اعتراف واسع. تقدم الوعي بالديمقراطية وتأخر الثقة في الإستبداد وآلياته وفي الحرب الأهلية، ذلك ولا شك انتصار.

لكن الصورة في وجهها الآخر قاتمة:
فالإنتخابات التي بدأت تعد في الـ 2011 بالملايين، وكانت قد تدنت في 2014 لتعد بالمليون الواحد، تعد اليوم بمئات الآلاف والعشرات والآحاد وأقل منها. العلة الواضحة بلا تفلسف هي انحدار الثقة في المسار السياسي، وأساسا في المترجم فيه هذا المسار، الأحزاب السياسية (ما يؤكده انتصار معتبر للمستقلين). ولا أتصور أن عاقلا سيعد انحدار الإهتمام السياسي من الملايين إلى الآلاف مؤشرا على نجاح للديمقراطية. إنه يعني تراجع الشرط القاعدي، الشعبي والروحي للديمقراطية. وذلك يعني على الفور بعبارة مؤسفة، الإنكسار الشعبي والروحي للديمقراطية. دعنا من التعليل هنا بحملات التشويه، فالأداء الحزبي الرديء ناطق بنفسه.
هكذا، ولكي نحدد الوضع الدقيق للمسار الديمقراطي، علينا أن نفهم معنى أن تكون الديمقراطية منكسرة شعبيا وروحيا، أي مضمونيا ومنتصرة انتخابيا وحزبيا، أي شكليا. وبرأيي فإن مستقبل الديمقراطية رهن لاتجاهات الإجابة عن السؤال التالي : إلى أي مدى سينجح شكل وجودنا السياسي في التحكم بالمضمون الفعلي له؟ إلى أي مدى سنتحدث عن مسار ديمقراطي في غياب المشاركة الشعبية، الشرط الجوهري لتعريف الديمقراطية نفسها منذ الإغريق؟
لا أزال على رأي لأحد الأصدقاء المحللين الجيدين ساقه منذ سنوات، ولم أر ما يجري إلا تحقيقا له: سنعيش لسنين ديمقراطية يعسر معها عودة الإستبداد، لكنها لن تحصل على المضمون الفعلي للديمقراطية، بل ديمقراطية مريضة “une démocratie malade”، محكمة الشكل خالية من المضمون، لا غير. لكنها على كل حال قابلة للمداواة، وأفضل من استبداد لا يداوى.

Exit mobile version