لطيفة شعبان
هوة سحيقة تفصل بين الشعب وما يسمى بالنخب اليسارية في تونس، شعارات ترفع، وممارسات تناقضها تماما، الأمر الذي أفقد الشعب التونسي الثقة في هذا التيار ومن يمثله. برز فقدان الثقة هذا إثر إنتخابات 23 أكتوبر 2011 وخاصة إثر إنتخابات 2014، التي كانت تعبيرا عن حسم الشعب في تيار لم تجد آماله وآلامه وطموحاته مكانا لها في قواميسه فكانت نتائج هذه الانتخابات تشييعا لجنازة مومياء ولدت محنطة وظلت كذلك، إنها مومياء ما يسمى بـ”اليسار التونسي”. وستكون بلديات 2018 قبرا لهذا التيار الذي لم يقدم لهذا الشعب سوى قطع الطرقات والخراب.
فكيف نشأ هذا التيار في تونس؟ وكيف تطورت علاقته بالمجتمع؟
تعود جذور الحركة اليسارية في تونس إلى بداية العشرينات من القرن الماضي أي مباشرة إثر نجاح الثورة البلشيفية في روسيا في الإطاحة بحكومة “كيرنسكي” -الاشتراكي المعتدل- التي خلفت حكومة “لفوف” الليبرالية التي وصلت إلى السلطة بعد الإطاحة بالنظام القيصري. هذه الثورة أفضت إلى تركيز نظام سياسي واقتصادي واجتماعي جديد في ما سيسمى بـ”الاتحاد السوفياتي” منذ سنة 1922. كان لنجاح هذه الثورة صدى كبيرا في عديد البلدان خاصة بعد تأسيس “الأممية الشيوعية الثالثة” بموسكو سنة 1919 تحت شعار “ياعمال العالم اتحدوا”، فالشرط الثامن من الشروط الواحد والعشرين لهذه الأممية يؤكد على بعث وقبول الأحزاب الشيوعية في العالم في عضويتها خلال مؤتمرها الثاني بموسكو سنة 1922 فانتشرت مبادئها وبدأ العالم يعرف شيئا فشيئا ما سمي بـ”المد الشيوعي”.
في ظل هذه الظروف تأسس الحزب الشيوعي في تونس سنة 1920 على يد مجموعة من الفرنسيين أساسا لذلك كان انتشار هذا الحزب بين أوساط التونسيين ضعيفا، رغم تأثر نخبته بالمبادئ الشيوعية مثل العدالة الاجتماعية. وما زاد في عزلة هذا التيار موقفه إثر الحرب العالمية الثانية من الاستقلال حيث رفض هذا المطلب وطالب بالإتحاد بين تونس وفرنسا بالإضافة إلى مواقفه من القضية الفلسطينية حيث قبل بقرار التقسيم وهو ما رفضه عامة الشعب التونسي. لتدارك هذا الجفاء بين الشعب التونسي والتيار اليساري تمت تونسة الحزب خلال الخمسينات لكن الهوة بين الطرفين بقيت سحيقة. ومع بداية الستينات سيؤسس مجموعة من الطلبة التونسيين بفرنسا من ذوي التوجهات اليسارية “حركة آفاق”، وقد ضمت المجموعة نخبة من المثقفين والطلبة وأصدرت مجلة سياسية حملت إسم “آفاق تونسية” ولكن سرعان ما دب إليها الانشقاق لتبرز على أنقاضها مجموعات يسارية غير متجانسة فيما بينها بل ومتناحرة أحيانا وهو ما زاد في عمق الهوة بينها وبين الشعب.
لقد ولدت الحركة اليسارية التونسية وعاشت نخبوية لم تلتصق بالجماهير إلا على مستوى الشعارات. لقد نشأت وترعرعت أساسا في أوساط الطلبة والموظفين والمحامين وغيرهم ولا يمثل العمال في صلب هذه الحركة سوى شعارا، وحتى لما نجحت في السبعينات بفضل الظرفية الدولية والمحلية الملائمة في التغلغل في صلب المنظمة الشغيلة الوحيدة بالبلاد وتأطير التحركات العمالية فإنها دفعت في اتجاه الإنحراف بالمسار الطبيعي للمنظمة الشغيلة ونضالات الفئة العمالية بالزج بها في جدالات لا توفر للعامل أو المزارع ما يطمح إليه من توزيع عادل للثروة وتحسين وضعه مثل “مواجهة الإمبريالية” و “التطاحن الطبقي” و “الدين أفيون الشعوب” وغيرها من المحاور النظرية التي لا تقدم للفئات الشعبية البدائل الفعلية والموضوعية لتجاوز واقعهم المتردي، وعوضا عن الاشتغال على توسيع قاعدتها الشعبية زجت بنفسها خلال الثمانينات وبداية التسعينات في الصراع الدائر بين السلطة والإسلاميين ومثلت طرفا داعما ومساندا للسلطة في اجتثاث “الصحوة الاسلامية” أو المد الثوري الإسلامي في تونس ممثلا في “حركة الإتجاه الاسلامي”، فراح زعماؤها ووسائلها الإعلامية يلعبون دور أبواق إعلامية تزين القمع والإرهاب المسلط على كل من تشتم عليه رائحة الانتماء إلى التيار الاسلامي، بل ومثل اليسار بجميع تفرعاته حينها اليد الطولى للنظامين البورقيبي والنوفمبري في إنجاح حملة “تجفيف المنابع”، وهو ما حد من انتشاره، لأن الجماهير الشعبية رأت في دعمه للسلطة دعما لاجتثاث “الإسلام” من تونس، الإسلام الذي ظل القاسم المشترك بين التونسيين والذي لم تتمكن محاولات التغريب المتتالية من المس به، بدءا من محاولات السلط الاستعمارية مرورا بسياسة بورقيبة التغريبية وصولا إلى سياسة “تجفيف المنابع” مع نظام السابع من نوفمبر. علما أن اليسار التونسي لم يخف يوما عداءه لهذا الموروث وسخريته من الظاهرة الدينية والتدين وهو ما زاد في غربته عن الجماهير. وحتى بعد نجاح السلطة في الزج بآلاف الإسلاميين في السجون وإجبار الآلاف الأخرى على اختيار المنفى خارج تراب الوطن ورغم أن الفرصة أصبحت مواتية لانتشار اليسار في ساحة خالية إلا أنه عجز عن الارتقاء إلى مستوى آمال وآلام الفئات الشعبية وظل حبيس أطروحات فوقية زادت من عزلته ونخبويته.
بعد الثورة وعوضا عن الانخراط في “معركة البناء”، بناء “تونس ما بعد الثورة”، “تونس الديمقراطية”، “تونس التعدد”، نرى هذا التيار وخاصة بعد انتخابات 23 أكتوبر 2011 -والتي كانت نتائجها عقابا له على الدور الذي لعبه سابقا- يعمل وبكل ما أوتي من إمكانيات بشرية ومادية وإعلامية للإطاحة بالحكومة الشرعية التي انبثقت عن الإنتخابات كما عمل كذلك على فتح مجالات جدل أكدت ودعمت غربته عن المجتمع التونسي مثل الخوض في موضوع “الأمهات العازبات” و”الزواج المثلي” وغيرها من المواضيع التي تجعل من التونسي ينبذ هذا التيار الذي لم تكن شعارات “الدفاع عن الزوالي” و “العدالة ألاجتماعية والتنمية” التي يرفعها سوى مجرد مساحيق يجمل بها وجهه، وجه التغريب والشوفينية.
لقد أثبت اليسار أنه فعلا جثة هامدة لا حياة فيها، فعوضا عن توخيه لسياسة نقد ذاتي ومراجعة مواقفه من هوية هذا الشعب وانتماءه ومواقفه من التيارات الاسلامية التي تمثل واقعا لا يمكن تجاهله أو التشكيك في نضالاته أو إقصاءه فإنه من باب سياسة القفز إلى الأمام يواصل اليوم إجترار مقولات مشتقة من القاموس الإستبدادي البورقيبي أو النوفمبري، مثل “التصدي للظلامية” و”الاخوانجية” وغيرها من المقولات التي استهلكت في العهد البائد ولم يكلف نفسه عناء البحث عن مصطلحات جديدة وهو ما يبرز عجزه عن تجديد قاموسه المفاهيمي. إن التيار اليساري والذي يسعى إلى إقصاء الشق الإسلامي ينسى أو يتناسى أنه بذلك يقصي الجزء الأكبر من الشعب الذي قال “لا” للحداثة بمفهوم اليسار، وقال “لا” لمن تلطخت أياديه بدماء مئات الشهداء الذين قضوا في سجون العهد البورقيبي أو النوفمبري بدءا بشهداء الحركة اليوسفية وصولا إلى شهداء الحركة الإسلامية. إن هذا الجزء من الشعب الذي يريدون اليوم إقصاءه، ولئن نجحت آلة القمع والاستبداد مع بورقيبة أو مع بن علي، بدعم لوجستي من اليسار في إخماد صوته، فإنه أضحى من الإستحالة اليوم إخماد هذا الصوت، ذلك الصوت الذي مثل صرخة من صرخات الثورة المزلزلة لعرش الاستبداد، الثورة التي لم تطح فقط بنظام بن علي لكنها أطاحت بكل أصنامه ورموزه ومنظريه، وهي اليوم تؤسس لثقافة مدنية، ديمقرطية، مقصية لثقافة الإقصاء واعدة بربيع متعدد الألوان.