دفاعا عن الجمهورية الثانية (2)
عادل بن عبد الله
كنا في الجزء الأول من المقال قد أشرنا إلى عمق الشرخ الذي أوجدته حركة النهضة “الإسلامية”، بعد الثورة، في الحقل السياسي التونسي “المُعلمن” قسريا منذ بناء ما سُمّي بالدولة الوطنية، ذلك الحقل السياسي الذي كانت “العائلة الديمقراطية” (بسلطتها ومعارضتها) تتعرّف ذاتيا فيه بالتعارض المطلق وغير القابل للتجاوز مع حركات “الإسلام السياسي”، سواء في ذلك من قبل منها العمل السياسي “القانوني”، ومن أصرّ على العمل ضد/ من خارج “الدولة – الأمة”. كما بيّنا في الجزء الأوّل أنّ اختيارنا للسيد لطفي زيتون، المستشار السياسي لرئيس حركة النهضة، هو اختيار معلّل بأمور كثيرة، لعل أهمها البعد “السجالي” والإشكالي في هذه الشخصية، ذلك البعد الذي يرجع في تقديرنا إلى أنه هو النقطة التي تجتمع تتجلى فيها، من جهة أولى، أزمة العقل السياسي “الإسلامي” و”العلماني” على حد سواء (أي أزمة الحقل السياسي بصفة عامة)، وتكمن فيها أيضا من جهة ثانية، ومن باب المفارقة، الحلول الممكنة لتجاوز حالة الهشاشة والعطالة و”اللاوظيفية” التي يعاني منها أغلب النخب السياسية بمختلف منحدراتهم الأيديولوجية والجهوية، وبمختلف تواريخهم السلطوية أو النضالية.
وقد اخترنا أن نشتغل في هذا الجزء الثاني على قضيتي المساواة في الميراث بين الجنسين وقضية العدالة الانتقالية. وهما قضيتان أثارتا لغطا كبيرا بين النخب العلمانية والإسلامية التونسية، بل بين المنتمين إلى البراديغم الفكري ذاته. وهو ما يعني استحالة رد الصراعات المجتمعية بين النخب، بل حتى بين المواطنين العاديين، إلى منظورات أيديولوجية “نسقية” أو صلبة تعكس الصور النمطية لمختلف الفاعلين الجماعيين. إننا أمام صراعات ورهانات تعبّر عن حالة من “السيولة” الأيديولوجية التي تخترق كل السرديات الكبرى منذ 14 كانون الثاني/ يناير 2011 إلى يومنا هذا. وقد يكون من الصحيح القول بأنّ السيد لطفي زيتون قد أظهر هذه “السيولة” بصورة نموذجية، سواء أكان ذلك في مواقفه الشخصية (وما تعكسه من مواقف الحركة، أو على الأقل من موقف أحد المراكز القوى داخل النهضة)، أم كان ذلك في ما تعكسه ردود الفعل على تلك المواقف داخل العائلة النهضوية وخارجها.
المساواة في الميراث: المقدس الديني والرهان الديمقراطي
عندما تكون “إسلاميا”، فإنك تواجه بالضرورة نوعين من استراتيجيات القراءة، وهي استراتيجيات مرتبطة بأفقي انتظار مختلفين جذريا: انتظارات “الإسلاميين”، خاصة القواعد منهم. وهي انتظارات يمكننا أن نقول بأنها محكومة بجملة من المفاهيم المركزية التي يهمّنا منها هنا اعتبارُ الأحكام الفقهية جزءا ماهويا من الإسلام (أي إنك لا تكون مسلما حقيقيا إلا بتحقيق العقيدة والشريعة، على الأقل ما كان منهما معلوما من الدين بالضرورة). أمّا انتظارات “العلمانيين” فإنها مرتبطة في الغالب بصورة نمطية تحاول أغلب النخب المهيمنة على الشأن العام التشكيك في كل ما يخالفها. فالإسلامي “الجيد” هو ذاك الذي يؤكد استحالة التوفيق بين الإسلام والديمقراطية، أي هو ذاك الإسلامي الذي يمكن اختزاله وتثبيته في المقاربة الاستشراقية/ الاستعمارية للإسلام باعتبارها يتعارض ماهويا وبصورة نهائية مع ما يؤسس الاجتماع الحديث في مستوى الفلسفة السياسية ومنظومة حقوق الإنسان.
لقد جاءت مواقف السيد لطفي زيتون في مسألة المساواة بين الجنسين في الميراث لتعكس هذا الموقع الجديد لإنتاج الخطاب الإسلامي: موقع لا يتطابق، من جهة أولى، مع شبكات القراءة “الإخوانية”. وهو لا تطابق جذري عّبر عنه السيد لطفي العمدوني، عضو مجلس شورى حركة النهضة، بصورة صدامية؛ قائلا إنّ السيد لطفي زيتون” هو خطر على مشروع الحركة الإسلامية”. وبصرف النظر عن الإشكالات التي يثيرها الحديث عن “مشروع الحركة الإسلامية” وعلاقته بمشروع الدولة الوطنية، وبصرف النظر عن وزن هذا الخطاب “الارتكاسي” ضمن قيادات النهضة وقواعدها (هو “ارتكاسي” لأنّ حركة النهضة أكّدت بوضوح بعد مؤتمرها الأخير أنها أصبحت جزءا من المشروع الوطني، وأنها خرجت من منطق البديل عن العلمانيين إلى منطق الشريك لهم).. بصرف النظر عن ذلك كلّه، فإن السيد لطفي العمدوني قد عبّر (بمعنى من المعاني) عن وعي ديني لا يمكنه أن يوافق السيد لطفي زيتون في قوله “الإسلام لم يفرض عدم المساواة بين الرجل والمرأة، كما لم يمنع ذلك إذا ما اتفق الناس على هذا الأمر، بل أوجب عدم النزول تحت الحق المفروض لها”، أو قوله: “في الديمقراطية، كل الأسئلة مشروعة، ويجب أن يشارك الناس جميعا في صياغة الأجوبة باعتبار المواطنة، وأعتقد أنّ أسئلة كثيرة وصعبة ما زالت تنتظرنا”.
إنّ الوعي الديني “المتحزب” (أو حتى العفوي أحيانا) يصعب عليه وجوديا ومعرفيا أن يقبل بأنّ الديمقراطية تبيح كل الأسئلة، وتحتكم في صياغة الأجوبة إلى الإرادة الجماعية المتشكلة داخل الحوار العام لا قبله، كما يصعب عليه أن يرضى بأن يُمسّ حكم هو عنده من المعلوم من الدين بالضرورة. وليس تلقي بعض العلمانيين لموقف السيد لطفي زيتون بأفضل من تلقي بعض الإسلاميين له. فأمام هذا الخطاب، تفقد النخب العلمانية أهم أسلحتها، إذ تتداعى الصورة النمطية للإسلامي النمطي الرافض لأية مراجعات دينية والعاجز عن الانخراط اللامشروط في الديمقراطية. وهو موقف عبّر عنه العديد من الإعلاميين الذين شككوا في موقف السيد لطفي زيتون، واعتبروه تواصلا للسياسات الازدواجية التي تطبع مواقف حركة النهضة، لا لشيء إلا لأنّ صاحبه اعتذر عن عضوية “لجنة الحريات الفردية والمساواة”. وهو اعتذار لم ير فيه أولئك الإعلاميون قرارا صائبا يمنع “تحزيب” اللجنة ويبعدها عن الصراعات الثقافوية الهووية التي تعاني منها أصلا.
هيئة الحقيقة والكرامة: جزء من الحل أم جزء من الأزمة؟
لعل من أخطر انعكاسات الأزمة الأخيرة بين هيئة الحقيقة والكرامة (برئاسة السيدة سهام بن سدرين)، وبين نداء تونس وبعض حلفائه في “العائلة الديمقراطية”، هو التماهي الذي يكاد يحصل في ذهن المواطن التونسي بين مسار العدالة الانتقالية وهيئة الحقيقة والكرامة. فالهجوم الشرس الذي شنّه نواب نداء تونس وحلفاؤهم؛ على الهيئة ورئيستها (ومحاولتهم منع التمديد للهيئة بصورة غير قانونية) أكسب الهيئة تعاطفا شعبيا كبيرا، وجعل من المواقف المعارضة للتمديد مواقف “مشبوهة”، خاصة عندما تصدر من أحد قيادات حزب النهضة الذي كان مناضلوه أكبر ضحية لنظام المخلوع. في هذا السياق بالذات (سياق المماهاة “الرمزية” بين العدالة الانتقالية وهيئة الحقيقة والكرامة)، تنزّل موقف السيد لطفي زيتون الرافض للتمديد. وهو موقف عبّر عنه بقوله: “لم أفهم سبب التمديد، والحال أن ضحايا الاستبداد أعربوا (لي) عن استغرابهم منه”، مضيفا أنّ “موارد الدولة الضعيفة غير قادرة على مزيد ضخ الأموال للهيئة”.
إن من ينظر في حجج السيد لطفي زيتون يلاحظ أمرين: أولا قيامها على التعميم (فكأنّ من عبّر له عن استغرابه هم كل ضحايا الاستبداد أو حتى أغلبهم الأعم، وهذا بالطبع أمر لا يُسلّم به عاقل)، وثانيا ارتباطها بذريعة محدودية موارد الدولة (وهي حجة يمكن نقضها ببيان مظاهر الإسراف وسوء التصرف في ميزانية الرئاسات الثلاث وغيرها من المؤسسات والهيئات الدستورية وغير الدستورية). إننا أمام نسق حجاجي “ضعيف”، أو على الأقل إن أحسنّا الظن بصاحبه، هو نسق حجاجي يطوي عدة مقدمات أخرى ويسكت عن جملة من البدائل التي لابدّ منها إن نحن سلّمنا بمشروعية إنهاء عمل هيئة الحقيقة والكرامة. ولا شكّ أنّ عدم حضور تلك المقدمات والبدائل بصورة مفصّلة في تدخلات السيد لطفي زيتون (من مثل توازنات القوة الحالية، التزامات حركة النهضة داخليا وخارجيا، المسارات الكارثية لثورات الربيع العربي، ضرورة تجاوز الاستقطابات الهووية وسردية المظلومية، الحاجة إلى التنازل للمنظومة وطمأنتها للاشتغال داخل الدولة لا على هوامشها أو ضدها.. الخ الخ)، لا شك في أنّ هذا العيب الاتصالي يجعله هدفا مفضّلا للنيران الصديقة والعدوّة على حد سواء.
مهما كان موقفنا من السيد لطفي زيتون، من المؤكد أنه يعاني من خلل اتصالي يجعله يتحوّل في الكثير من الأحيان إلى كبش فداء؛ تعمل أطراف كثيرة داخل حركة النهضة وخارجها على اختزال الأزمة فيه وشخصنتها لتتجنب أية مساءلة جدية. فالأغلب الأعم من النهضويين (أو المحسوبين على الثورة من غير النهضويين) لا يدفعون إلى الحوار العام إلا ببعض العناصر من كلام السيد لطفي زيتون، ويعملون جاهدين على تغييب ما يناقضها. فهم مثلا يُظهرون موقفه من هيئة الحقيقة والكرامة وكأنه موقف من العدالة الانتقالية كلها، والحال أنّ مستشار رئيس حركة النهضة يرى في أحد تصريحاته الصحفية أنّ “ربط العدالة الانتقالية بالهيئة وببن سدرين سيقتلها”. كما يرى أنّ “الأصل أن يتكوّن قطب قضائي مثل قطب الإرهاب والقطب المالي يبقى مفتوحا ويتولى قبول القضايا؛ لأن هناك قضايا وجرائم تحتاج الى سنوات طويلة من التحقيق الذي سيحدث الآن خلال المدة المتبقية”. إننا أمام طرح مختلف لمسار العدالة الانتقالية، وهو طرح يحتاج إلى نقاش جدي سواء داخل هياكل الحركة (التي لم تنقذ رئيسة الهيئة يوم التصويت للتمديد) أو خارج هياكلها، أي بين مختلف الفاعلين الجماعيين في الحقلين السياسي والمدني.
خاتمة..
لقد ذهبنا في بداية هذا الجزء الثاني من المقال إلى أنّ السيد لطفي زيتون المستشار السياسي لرئيس حركة النهضة يمثل (في الآن نفسه) مظهرا نموذجيا من مظاهر الأزمة داخل الحقل السياسي التونسي (من جهة أولى أزمة تحوّل حركة النهضة من مرحلة البديل إلى مرحلة الشريك، ومن مرحلة المشروع الإخواني لطوبى الخلافة إلى مرحلة المشروع الوطني داخل الدولة-الأمة، ومن جهة ثانية أزمة العقل السياسي “العلماني” وإصراره على تثبيت الإسلاميين ضمن صور نمطية بالية لا تعكس الواقع بقدر ما تعكس الرغبة)، ولكنه، أي السيد زيتون، يُمثّل أيضا الموقع الأقدر على التجاوز الجدلي للمواقع التقليدية لإنتاج الخطاب الإسلامي والعلماني على حد سواء. وهو تجاوز يحتاج في تقديرنا إلى أمرين: تحسين الاستراتيجية الاتصالية، خاصة مع قواعد النهضة من ذوي المرجعية الدينية التقليدية، وعدم التماهي مع المنظومة الحاكمة، وهو أمر ممكن إذا ما نجحت النهضة في التحول إلى “حزب محافظ” يتعامل نقديا مع الأساطير المؤسسة للنمط المجتمعي التونسي دون أن يدخل معها بالضرورة في صراع “وجودي” أساسه النفي المتبادل.
إن تموقع السيد لطفي زيتون في مكان مختلف عن الأمكنة التقليدية لإنتاج الخطاب داخل الدائرة الإسلامية ليس ميزة ولا نقيصة “في ذاته”. فقيمة أي موقع لإنتاج المعرفة السياسية تتحدد أساسا من خلال قوّة الاقتراح التي يمتلكها في تحقيق توزيع أكثر عدلا للسلطة وللثروات المادية والرمزية. وبصرف النظر عن نوايا السيد لطفي زيتون، وبصرف النظر عن مدى توفيقه في التعبير عن استراتيجية حركة النهضة في التحول من الهامش إلى المركز، وفي الخروج من منطق مضاددة الدولة إلى منطق خدمتها، فإننا نذهب إلى أنّ ما يثيره المستشار السياسي لرئيس حركة النهضة من سجال، هو جدل مجتمعي يتجاوز الاستراتيجيات الواعية لشخصه ولباقي الفاعلين الجماعيين.
إننا أمام منعطف تاريخي تنفتح فيه تونس على جملة من الممكنات المتناقضة: إمكانية ذوبان النهضة في سردية “النمط المجتمعي التونسي” وفشلها في التحول إلى “حزب محافظ”، إمكانية نجاح النهضة في هذا التحول وتغير الهوية الجماعية للنهضة بل للتونسيين، إمكانية تأبيد التناقض بين الإسلام والديمقراطية أو إمكانية نجاح “الاستثناء التونسي” باعتباره طليعة لنجاحات عربية قادمة، إمكانية ترسيخ التبعية والاستبداد أو إمكانية بناء مشروع تحرري شامل، إمكانية دمج الإسلاميين في الحقل السياسي القانوني بصورة نهائية، أو الارتكاس إلى الصراعات الوجودية والدموية بين الإسلاميين والعلمانيين.. الخ الخ. ولا شك في أن آليات التعامل الإسلامي والعلماني مع مقترحات السيد لطفي زيتون (ومع موقعه الإشكالي في إنتاج المعنى السياسي)، وتعامله هو ذاته مع النقد الجاد الموجه له، ستعكس إلى حد كبير المسارات الداخلية لبعض تلك الممكنات التاريخية، وقد تحدد مآلات “العقل السياسي التونسي” ولو بعد حين.
“عربي21”