أدب الديكتاتورية.. صنع أدباء وعرى الطغاة…
منير إبراهيم تايه
“التاريخ هو تحقق الروح كما قال هيجل وماهية الروح هي الحرية فتقدم التاريخ يعنى التقدم في تحقيق الحرية أو الوعى بالحرية التي تحققت فالشعوب المتقدمة هى الشعوب التي تعي بأنها حرة فتتمسك بهذة الحرية وتنتج علما وفنا وفلسفة”.
إن البعد السيكولوجي في أي شخصية، له النصيب الأكبر في تكوين هذه الشخصية.. فالطغيان ليس مجرد سلوك، بل هو إنعكاس عن حالة ذاتية داخلية يعيشها الطاغية.. إنها حالة سيكولوجية تمثل الدافع الدينامي الداخلي للسلوك الإستبدادي والتسلطي والتفردي.. وهي تمثل جوهر الأنا الذي يتصور المستبد من خلاله ذاته، والآخر من حوله.. وبالتالي ينظم العلاقة بينه وبين الذات الأخر، وفق هذا التصور.. ولهذا فإن الإستبداد في حقيقة الأمر، يمثل نزعة داخلية لدي الفرد المستبد تدعوه للسيطرة والتفرد والإستحواذ والسطوة والتملك، فالطاغية هو ذلك الشخص المغرور المتعجرف المتسيّد، وعند أفلاطون هو شخص مضطرب، طموح، فيه سمة دنيئة أصيلة، جائر، يظهر في فترات الإضطراب والقلاقل الإجتماعية والإقتصادية فيستغل حاجة الجموع “لقائد”، يتقرّب منهم في بداية الأمر ويصعد على حسابهم، ثم يجمع حوله طغمة من المنتفعين والمتسلقين، ثم يكشف عن روح الذئب ويطلق لرغباته الخاصة والمنحطّة العنان.
يقول الكواكبي: الإستبداد لغة هو غرور المرء برأيه، والأَنَفَة عن قبول النصيحة، ويصف المستبد بقوله “يود أن تكون رعيته كالغنم درًّا وطاعة (خرفان)، وكالكلاب تذلُّلًا وتملُّقًا، وعلى الرعية أن تكون كالخيل إن خُدِمت خَدَمت، وإن ضُربت شَرِسَت، وعليها أن تكون كالصقور لا تُلاعَب ولا يُستأثَر عليها بالصيد كله”…
ومن صفات الطاغية إدعاء المعرفة دون غيره يعمل على تشويه صورة كل معارض أو كل من لا يقف معه، ويمكن له أن يشوه صورة الدعاة والمصلحين لأن ذلك بالتأكيد سيتضارب مع أفعاله وأقواله فيسخر الإعلام ورموزه من بطانته ليقوموا بالحرب على كل ما هو مخالف، ويصور أن بلاده تنعم بالأمن والأمان والإستقرار وأنها أكثر الدول إستقرارا ورخاء وأنها قبلة العالم، ولا شك أنه المتدين الأول والحريص على الدين.. كما يعمل الطاغية على بث الفرقة بين أبناء الوطن الواحد، وكذلك كل فساد بين الناس، ولعل المرأة هي أول ما يبدأ الفتنة حولها بدعوى المساواة، وهو بذلك يجبر الجميع على نوع معين من المعارف والعلوم تخدم ما يريد. فمن السمات الأساسية للطاغية أنه لا يكترث برضا الناس أو موافقتهم على حكمه، فالمهم إجبارهم على السمع والطاعة، فلا يمكن أن يسيطر الديكتاتور على الناس بحق دون أن يحكم السيطرة على ما يلقى في عقولهم، وعبر هذه الأساليب يعمم الطاغية أو المستبد، هذه المعادلة.. إما أنت مع الطاغية، فأنت إبن الجماعة البار.. فلا وجود لكيانك المستقل إلا عبر ولاء مطلق، لهذا الطاغية، ولا بد أن تدلل بشكل دائم ومستمر علي هذا الولاء.. وإما أن يسحب منك حق الإنتماء لهذه الجماعة، لأنك قد خرجت على الطاغية.. وصدر بحقك الصكوك والفرمانات لتحرم من كل مغنم، ويكون مصيرك الطرد والإقصاء والإبعاد من الجماعة، وتجرد من كل حقوقك من هذا الإنتماء.. ويسحب جواز عبورك، أو هوية إنتمائك، بمجرد أن تقول للطاغية لا.. لأنك بذلك تصبح عضو منشق عن هذا الجسم الذي يدين للطاغية بالولاء.
والطغيان والإستبداد متلازمان نتاجهما الظلم وغمط الحق، والنفس البشرية تواقة للحرية بطبعها، تكره من يكبلها ويضع القيود لها، ولعل التساؤل الذي يهم الجميع ما هي العوامل التي تهيئ للطغيان وجوده وكذلك خلق الطاغية، وكذلك تكوين عقلية الطاغية الذي يعيث فسادا في الأرض، فالطاغية لا يبالي بما يفعل فيقهر الناس ويغلبهم من غير خوف أو وجل أو حرج ولا يثنيه عن ذلك شيء، وذلك لتجاوزه الحد في الجبروت والتعالي والتكبر والمعاندة والظلم وغمط الحق.
وهو ليس لأفعاله قانون يقيدها، فهو فوق كل قانون، وفوق كل اعتبار وبفضل هذا التضخيم يصبح الديكتاتور إلها..
يظل الأدب تصويرا وانعكاسا لما يحدث في المجتمع، يرصد بأقلام كتابه معاناة الشعوب وأحلامهم ومشكلاتهم يجسد تفاصيل السنوات في سطور، ويظل الأدب اللاتيني هو المؤسس الأول لما يعرف “أدب الديكتاتورية” فهو أوضح من تصدى لقهر الطغاة بكتاباتهم التي جاءت واضحة مثل رواية “مئة عام من العزلة” و”خريف البطريرك” و”حفلة التيس” وغيرها من الروايات، التي قدمت للعالم طوال القرن العشرين، بعض أقوى الأعمال في هذا المجال، إن إحدى تجليات العمل الروائي أن يجعلك تتخذ موقفا من الظلم، من الحياة، من الإنسانية، ولكن ما الذي يجعل من الديكتاتور مصدر وحي أدبي؟ إنها بلا شك طبيعته شبه الإلهية التي تتجاوز الحدود البشرية لتكتسب طابعاً أسطورياً راسخاً عبر القرون. لم أكن أعرف الكثير عن الدومينيكان ولا عن ذلك الطاغية إلا بعد أن قرأت رواية “حفلة التيس” والإحتفال بمقتل الطاغية “التيس”، لم أقرأ رواية مثلها في حياتي، لقد فاق ديكتاتور غابريال غارسيا ماركيز الغارق في عزلته، وقد دفعتني الرواية لأن أحاول أن أعرف شيئا عن ذلك الطاغية العنيد الذي مارس كل أشكال التنكيل لشعبه ومارس كل أنواع التأليه وعبادة الذات، إنهم بائسون، يعيشون في تحد يومي مع التاريخ، ومع الأوهام معاً. محرومون من المتعة التي يجدها الدهماء في قاعهم الإجتماعي؟
تعتبر رواية “حفلة التيس” للكاتب ماريو بارغاس يوزا واحدة من أجمل وأقوى أعمال هذا الأديب الذي تميز أسلوبه بالتركيب الخلاّق، وبحس السخرية البادي، تنطلق الرواية من أحداث حقيقية، يدمج فيها الكاتب أحداثاً وشخصيات متخيلة. أما الخلفية الحقيقية فتتعلق باغتيال ديكتاتور جمهورية الدومينيكان، الشعبوي، رافائيل ليونيداس تراخيلو، الذي إنتهت حياته كما انتهى حكمه الذي دام 31 سنة، في عام 1961، بفعل مؤامرة حيكت ضده وأدت إلى التخلص منه. غير أن يوزا لا يعالج هذا الحدث التاريخي المعروف في شكل مباشر، بل مواربة، وتحديداً من خلال محامية أميركية من أصل دومينيكاني تدعى أورانيا كابرال، تعود إلى وطنها الأم بعد ثلث قرن من مبارحتها له، حيث إستقرت طوال تلك الحقبة في الولايات المتحدة حيث عاشت (منذ كانت في الرابعة عشرة) وتعلمت ودرست المحاماة، من دون أن تقرر العودة إلى الوطن… وبسرعة هنا سنعرف لماذا: فهي كانت الإبنة الصبية لواحد من كبار رجال الحكم المحيطين بتراخيلو والمخلصين له. أما اليوم، فإن أورانيا تعود إلى معايشة أبيها المحتضر بعد كل تلك السنوات… ولكن بخاصة كي تطرح عليه عدداً من الأسئلة التي لا شك كانت تشغل بالها منذ زمن بعيد. وتتعلق بالديكتاتور الراحل وبحياتها العائلية وأكثر من هذا: بجبن أبيها أمام سطوة الديكتاتور… جبنه إلى درجة أنه لم يتمكن من الدفاع عن إبنته أمام فساد تراخيلو، بل آثر أن يسكت عما حدث لها، وظل ساكتاً وهي في الغربة تعيش حياتها وجرحها الدائم. وسنكتشف في النهاية أن محاولة إغلاق هذا الجرح، هي ما أتى بأورانيا اليوم إلى هذا البلد بعد كل تلك السنوات.
في “خريف البطريرك” اعتمد غابريال غارسيا ماركيز أسلوب النقد اللاذع في سياق تناول الديكتاتوريات. ولطالما تمتعت كتابته بنبرة أدبية يصف من خلالها عالم ديكتاتوريات أميريكا اللاتينية المُذهل. إنه عالم يطغى عليه الفساد، النميمة، الإبتزاز، الإغتيالات، التصفيات وتعطّش مرضي للسلطة حوّلته العزلة إلى كبت، يسيطر هذا الحاكم على بلاده ذات البنية المتخلّفة، لكن أجمل ما في الرواية هو غرام الديكتاتور بملكة جمال الفقراء مانوال سانشيز. يتداخل حب السلطة بافتتان الديكتاتور بتلك المرأة في رواية يسردها ماركيز برقّة ساخرة،. وبهدف تحقير صورة الديكتاتور الظالم، يُبرز ماركيز صورة جسد الحاكم المُفكّك التي يستخدمها الكاتب ليدمّر جمالية تلك الأسطورة، لقد نجح ماركيز في جعل القارئ يشتم رائحة الديكتاتور، بل ويلمسه بيده، من خلال اللغة التي استخدمها في وصفه، إذ تصف الرواية ما ارتكبه الديكتاتور طوال مدة حكمه من جرائم إبادة وقتل جموع من البشر بطريقة مبتدعة لا تخطر على بال أحد، وقد تمكن بفضل جرائمه من الإستمرار في الحكم طوال كل تلك المدة.
أما في “مئة عام من العزلة” فتناول ماركيز عائلة بوانديا التي تمتد على 6 أجيال في قرية ماكوندو الخيالية. تندلع الحرب الأهلية، فيشارك فيها معظم سكّان القرية من خلال جيش المقاومة الذي يقوده الكولونيل أورليانو بوانديا. في هذه الأثناء، يتم إعلان أركاديو قائداً مدنياً وعسكرياً فيتحوّل الى ديكتاتور عنيف. يبرع ماركيز في عرض تحوّل أركاديو الى حاكم متسلط. إذ أنه مجرّد أستاذ مدرسي يتولّى قيادة ماكوندو إثر رحيل الكولونيل أوراليانو بوانديا. فيصبح ديكتاتوراً مخيفاً جعل من تلاميذ صفه جيشاً. ولدى بلوغ المحافظين السلطة، يلقى أركاديو نحبه قتلاً بالرصاص. يجسّد أركاديو نموذج الديكتاتور المعزول الحاضر في أدب ماركيز. إنما عزلته هي جزء من عزلة معظم أعضاء عائلة بوانديا الذين يعيشون في قرية بعيدة عن الحداثة. يُبرز لنا تحوّله من مجرد أستاذ مدرسي إلى ديكتاتور الوحشية التي تولّدها الحرب في نفوس الناس، إذ أن الإفراط بالعنف قد يجعل من المرء كائناً مستبداً وسلطوياً. غالباً ما يتناول ماركيز الديكتاتور، لأن خياله تأثر بالأجواء السياسية بما أنه كان يسمع حكايات جدّه كولونيل الجيش الذي كان يخبره عن المجازر والملاحم الوطنية. كما أنه تعرّف في طفواته على قصص الزعيم الليبرالي الأسطوري الجنرال رافاييل أوريب وهو من أبطال حرب الألف يوم.
وعلى النقيض من أدب أمريكا اللاتينية التي تحتوي مكتبة كاملة وغنية جدا من الأعمال التي كتبت عن الدكتاتور وتناولته من جميع الجوانب، فكل كتّاب أمريكا اللاتينية مشغولون بقضية الدكتاتور، بينما نحن لم تكتب عندنا رواية الدكتاتور بعد، فهل تساءلنا يوما عن سبب خلو الأدب العربي الحديث من شخصية الديكتاتور وهل من تفسير لتراجع إهتمام الأدباء العرب عن معالجة وتناول صورة الدكتاتور في أعمالهم وهل هذا يعني أن إهتمام الأدباء العرب بالحرية ضعيف، وهذا هو السبب الرئيسي في الإشكالية، إن الأدب العربي الحديث لم يتناول الديكتاتور إلا في قليل من الأعمال، مع أن حياتنا السياسية إمتلأت، حكاماً ديكتاتوريين، لا يقلون قسوة وعنفاً عن أولئك الذين عرفتهم بلدان أميركا اللاتينية، فوجدوا في الأدب مرآة صوّرت أحوالهم وأحوال شعوبهم تحت وطأة حكمهم، ومن جوانب كافة، ونعود لنسأل السؤال الإستنكاري المجحف: لماذا عجز الأدب العربي طوال القرن العشرين وحتى الآن، عن تقديم أية إنجازات حقيقية لافتة في هذا المجال، ولماذا هو عندنا أدب صامت يلزم الأبراج العاجية ويحاول أن يولي وجهه عن الواقع ويحرص على عدم الإحتكاك به، وظل الأدباء العرب المعاصرون يشفون غليلهم من الديكتاتوريات التي حكمتهم من خلال تطفلهم على أدب أمريكا اللاتينية رغم أن الثقافة العربية بدورها عانت من تكريس أنواع لا حصر لها من أشكال المصادرة والمنع، وإذا كانت البنية الإجتماعية والسياسية في أكثر من مكان قد رسخت لمفهوم الرأي الأوحد، غير القابل للنقاش، فإن الصياغة الواحدة والفريدة لمثل هذه البنية، إنما تتوافق وتأتلف مع تفسير واحد لا يقبل القسمة على إثنين، تفسير يحيل على الديكتاتورية التي طالت الفن والأدب، بمثل ما تغولت ضد أبسط الأشياء التي تتنافى مع أصول الديمقراطية والحرية، مع إستثناءات قليلة من البعض الذين لجأوا إلى أسلوب “الإسقاط” في كتاباتهم بمعنى أنهم تناولوا الحاكم الديكتاتور بأسلوب غير مباشر أو بالرمز، وهناك رواية “مجنون الحكم” للمغربي بنسالم حميش، عن الحاكم بأمر الله كتبها من موقع معاد للدكتاتور، واختار نموذج الحاكم بأمر الله كمجنون للحكم، وربما هو النص المهم الذي كتب بصورة مباشرة عن الدكتاتور..