حسن البنا… أو اللينيني الأخير

نور الدين الختروشي
تونس الثورة.. وما بعدها
في العدد 47 من جريدة الرأي العام انتهينا إلى مقدمات وملابسات تحول حركة النهضة من الجماعة الدعوية إلى المعنية أساسا بالمسألة العقائدية والتربوية، إلى جماعة سياسية أو بالتدقيق إلى “الحركة” المعنية بالتغيير الشامل للفرد والمجتمع والدولة، أو للموجود الثقافي والاجتماعي والسياسي. وكان لا بد لهذا التحول من تأويلية جديدة للمرجعية الدينية التي ارتكزت عليها الجماعة ولازمتها المضمونية والأداتية.
ونقصد يالمضموني الرؤية والمشروع والاستراتيجيا والأداة، أو التنظيم الشمولي، أو الحاوية الحاملة للمشروع.
فمن جهة الرؤية تنطلق المرجعية الإخوانية من سؤال النهضة، وبديهة حالة التخلف والإنحطاط “الحضاري” الشامل الذي تعيشه الأمة الإسلامية، وضرورة العمل على النهوض بها وإعادتها إلى سكة الإنتاج الكوني، ومن ثمة “الأستاذية” على العالم، أو الشهادة على الناس. وهذا يقتضي العودة إلى الاصول، واستدعاء نموذج اللحظة النبوية إتباعا واقتداءا، عملا بقاعدة “لا يصلح حال الخلف إلا بما صلح به حال السلف”. فالفكرة المركزية التي أسس لها حسن البنا هي فكرة الإسلام الشامل المؤمم لكل عناصر الحياة والمهيمن على كل شؤون البشر عقيدة وسلوكا وشريعةً، فبالعقيدة تتحدد رؤية الإنسان لنفسه وعالمه وأشيائه، وبالسلوك تتحدد أسس التعامل مع المغاير والشبيه مسلما كان أو غير مسلم، وبالشريعة تصاغ نظرته للمجتمع، وموقعه منه، حقوقه عليه، وواجباته نحوه.
هذا بتكثيف نرجو أن لا يكون مخلا أهم عناصر الرؤية التي انطلق منها حسن البنا في تكوين جماعة الإخوان المسلمين، وقد نجح هذا التصور الذي نظّر له الشهيد في تكوين أكبر الجماعات الإسلامية في تاريخنا السياسي المعاصر، وأكثرها تأثيرا “بأعجاب المعجبين وسخط الساخطين على حد سواء” بتعبير محمد سليم العوا في كتابه المدارس الفكرية الإسلامية.
وقد تزامن سعي البنا في مصر مع جهد أبو الأعلى المودودي في تأسيس الجماعة الإسلامية، التي مهدت لانفصال باكستان عن الهند بنفس المقدمات مع إظافة هاجس تأسيس الدولة عند المودودي.
ففكريا يمكن القول أن جماعة الإخوان كانت التركيب الحركي والتنظيمي لفكرة الإصلاح الأفقي التي نظّر لها محمد عبده ورشيد رضا، بالتركيز على النهضة العلمية والثقافية وإعادة بناء معمودية الشخصية العربية والإسلامية على قاعدة الأصول واستنساخ النموذج الصحابي الفريد، والتصالح مع عالمها كأولوية وشرط لتجاوز الإنحطاط. وفكرة توحيد العالم الإسلامي واستعادة الخلافة الجامعة بالنضال العسكري والسياسي للتخلص من الإستعمار وإعادة بناء دولة المسلمين الموحدة تحديدا كما ركز عليها أستاذهما جمال الدين الافغاني في أدبيات “العروة الوثقى”.
حسن البنا بعقل توفيقي نابه جمّع بين الرؤيتين، وأدمجهما في تصور شامل لسؤال النهوض. وكان جديده الأساسي هنا ليس في التوليف بين الإفغاني وعبده، فقد سبقه لذلك المودودي ومحمد إقبال في الهند للتقعيد الفلسفي والنظري لسؤال من أين نبدأ في مسار النهوض الحضاري؟؟ بالدعوي والثقافي والعلمي أم بالسياسي والعسكري ؟ بإصلاح الفرد والمجتمع أولا ؟ أم باستعادة دولة الإسلام أولا ؟
آمن المودودي بتوازي مسار الثقافي والسياسي وأكد البنا على الدمج بين المسارين وكانت إضافته الأساسية إضافة تنظيمية، فقد أبدع فكرة التنظيم الهرمي الشامل المستوعب لمختلف أبعاد مشروع الإصلاح والنهوض كما نظر له جيل النهضة في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.
الإستثناء في تصور البنا يتمحور في تقديري في قدرته العجيبة على انتزاع فكرة التنظيم الحزبي من الأدبيات الماركسية واللينينية وتركيبها على فكرة “الجماعة” والتي كانت في مجملها في تلك الحقبة على مقاس الطرقية الصوفية المتمركزة حول فكرة التزكية والطريقة والشيخ.
البنا بعقل براغماتي رهيب إقترض من الصوفية فكرة التكوين التربوي وتزكية النفوس، ومن عبده فكرة الإصلاح القاعدي، ومن الإفغاني فكرة مقاومة الإستعمار، وكونية التحرر الإسلامي، ومن المودودي “ضرورة الدولة” ومن لينين فكرة التنظيم الحديدي المركزي والهرمي والمغلق.
كل الجدة والطرافة التي تستدعي الإعجاب حد الدهشة بعبقرية البنا، ليس في تركيب عناصر الإختلاف بين مداخل الإصلاح عند مفكري النهضة، فهي بالنهاية متكاملة ومفتوحة على التوازي والإنسجام، بل في استدعاء فكرة التنظيم اللينينية، وفي هذا، أثبتت تجربة الإخوان أن حسن البنّا كان “اللينيني الوحيد” في الفضاء العربي الإسلامي. فقد إنتبه البنّا مبكرا لفكرة التنظم كأداة وحاوية هيكلية شاملة لكل الأبعاد الحركية أو العملية لمشروع إحياء الدين والنهوض كما تمثله تيار الأصالة، والذي يقول بممكن الإكتفاء بالمخزون الديني والثقافي الذاتي للتخلص من التخلف والإستعمار والعودة إلى دورة الإنتاج الكوني، في مقابل تيار التغريب الذي يرى في الإندماج في الغرب طريقا للخلاص من حالة الإنحطاط والإستبداد والإستعمار.
فكرة التنظيم المركزي الذي ينطلق من “الإقليم الأساس” -اشتغل عليها منهجيا نديم البيطار في المدرسة القومية لاحقا- ليمتد بعدها بأذرعته الإقليمية على مدى خارطة العالم الإسلامي، هو المستجد الجديد الذي أبدعه العقل العملي عند البنا. فشمولية مشروع الإحياء الإسلامي فكرة سابقة للبنّا، وهي تكاد تكون محل إجماع بين رموز الإصلاح الإسلامي في بدايات القرن الماضي سواء في المغرب الإسلامي (الفاسي وابن باديس وابن عاشور) أو في أقصى مشارقه (إقبال والمودودي والندوي) وبينهما النورسي في تركيا وابن عبد الوهاب في الحجاز.
أدلجة الدين وتوظيف الإسلام كرافعة أساسية لمشروع التحرر الثقافي والسياسي من الإستبداد في الداخل والإستعمار في الخارج، بهاجس استعادة مجد الأمة، لم يكن شذوذا ولا إستثناءا إخوانيا، بل كان مشتركا بين التيار الأوسع لعلماء ونخب الأمة في بدايات القرن الماضي. وجديد البنا ليس في الرؤية، بل في الإستراتيجية أي في تقعيد منهج التغيير الشامل والمتدرج، بالأداة التنظيمية المركزية الموزعة بين السري والعلني، والصارمة في هرميتها ومقاييس الإنتداب فيها، ومعايير التدرج الهيكلي داخلها، والمفتوحة على التصدير للخارج الوطني على قاعدة البدعة اللينينية: علم التنظيم هو العلم الأم للثورة،.
هذا ما أضافه البنا باقتدار عجيب يشهد له إمتداد الجماعة وتحولها إلى تيار فاعل على امتداد خارطة العالم العربي والإسلامي إلى اليوم.
الجماعة الإسلامية في بداية السبعينات في تونس وجدت في هذا التصور والرؤية والمشروع والإستراتيجيا إجابة تاريخية وسياسية لسؤال ما العمل ؟
وكان من الطبيعي ضمن مسار تطورها من السياسي والتنظيمي أن تستلهم التجربة الإخوانية التي زينت تجربتها ببشائر صدق على طريق الأنبياء، وأبرزها مؤشر المحنة والعطاء والصمود والصبر على وحشة الطريق وغربة المسار. كان من الطبيعي أن تتأثر الشبيبة الإسلامية الناشئة والمتحركة على هوامش المجتمع المدني في دولة بورقيبة المفرطة في الإبتعاد عن “أرضية الإسلام”، والمفرطة في الإقتراب من اليعقوبية الفرنسية والأتاتوركية التركية، أن تجد في أدبيات الإخوان منهلا للإنتشار وللتعبئة والتأطير والتنظيم ورسم مداخل التغيير المنشود، والتمكين لراية التوحيد بإقامة دولة الإسلام والعدل والحرية.
تطور الشبيبة الإسلامية التي انطلقت من “بقايا” الجمعيات الدينية التي زهد فيها المشروع البورقيبي، وبسند معنوي من “بقايا” مشائخ الزيتونة من الجماعة الدعوية العضوية إلى التنظيم السري المزدوج والمغلق، هذا التطور ما كان ليكون ممكنا في هذا الإتجاه لولا التأثر بالتجربة الإخوانية واستدعاءها للإجابة على سؤال ما العمل ؟
جريدة الرأي العام

Exit mobile version